حول دعوة بريجنسكي لعلاقة سعودية أميركية استراتيجية

TT

دوما نبتهج ـ عقليا ـ بطرح العقلاء: من كل جنس ودين. فالبشرية في تاريخها وحاضرها إنما حققت تقدمها وسلامها النسبيين بأفكار العقلاء وآرائهم، على حين غشيها التخلف والفزع والضر من (غير العقلاء): في السياسة والدين والأمن والثقافة والإعلام. زبغنيو بريجنسكي من هؤلاء العقلاء الذي لم نزل نستشهد بأفكاره وآرائه ورؤاه فيما نكتب.. والرجل ليس معصوما ـ طبعا ـ ولكن الراجح في جملة آرائه هو: العقلانية الرصينة.. ثم النزاهة الأخلاقية بدرجة عالية.. ثم هو (مفكر استراتيجي) أميركي مخضرم: بحكم تدريسه الاستراتيجية في جامعات أميركية، ولأنه ممسك بملف استراتيجي ضخم منذ كان مستشارا للأمن القومي الأميركي.

ولقد وجه رسالة خلاصتها «على الولايات المتحدة والسعودية بناء تحالف استراتيجي من أجل السلام. فالمملكة تحظى باحترام واسع في الشرق الأوسط، وهي تتفهم الإقليم بصورة أفضل ربما أكثر من أي طرف آخر، كما أن الأطراف الأخرى تنصت لما تقوله المملكة، وذلك فضلا عن دورها الدولي المهم. وما لم نشيد هذا التحالف معا، فإن السلام والاستقرار لن يحدث من تلقاء نفسه. ومن جانبنا، فإن حقبة تصور أن الولايات المتحدة تملك حق الضرب هنا وهناك وأنها تحكم العالم قد انتهت.. هذه هي رسالتي المختصرة اليوم».. قال ذلك من خلال ندوة عقدها ـ في واشنطن ـ في الأسبوع الماضي: المنتدى السعودي الأميركي تحت عنوان (المتغيرات الدولية ومستقبل العلاقات السعودية الأميركية). ودعوة أو رؤية بريجنسكي ـ وهذا هو الأهم في مقالنا هذا ـ هي رؤية حيوية وبعيدة المدى: بمقياس التاريخ والحاضر والمستقبل. فلئن تبدلت علاقات القوى الدولية بهذه المنطقة، وسادها الاضطرابات والتوتر والعشق والخصام والغزل والصدام على مدى قرون عديدة سابقة، فإن الظاهرة السياسية الاستراتيجية البارزة ـ عبر العقود نفسها ـ هي (ثبات واتساع العلاقات الاستراتيجية السعودية الأميركية). والظاهرة جديرة باستدعاء منظومة كبيرة من الأسئلة. ولما كان المجال لا يتسع إلا لسؤالين اثنين، فإن هذين السؤالين المركزيين هما: 1ـ كم عمر هذه العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين؟.. إذا قدرت البداية بلقاء الملك عبد العزيز بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (عام 1945)، فعمر العلاقة هو نحو 65 عاما تقريبا.. وإذا قدرت البداية بالتنقيب المشترك عن البترول ـ في أوائل الثلاثينات من القرن العشرين ـ فإن عمر العلاقة هو 75 عاما. 2ـ السؤال المركزي الثاني هو: ما السبب الرئيس في ثبات العلاقة ونموها واستمرارها وانتفاع الطرفين منها؟ الأسباب عديدة، بيد أن السبب الأعظم والأقوى ـ في تقديرنا ـ هو (الاحترام المتبادل) بين النظامين السياسيين الاجتماعيين المختلفين وهو احترام تمكن ترجمته وصياغته في المصطلح الحضاري الآتي (مصالح مشتركة في ظل أنظمة سياسية متنوعة). وهذه قضية تتطلب بسطا وإشباعا وتأصيلا: في المضامين وقوة التعبير ووضوحه. متى غرس الملك عبد العزيز النواة الأولى لـ(الدستور) الذي حكم المملكة ووجه مصائرها؟ فعل ذلك منذ ثمانين عاما.. وماذا كانت طبيعة تلك النواة؟.. كانت طبيعتها (إسلامية). فقد نص الدستور أو ما عرف بالتعليمات الأساسية على أن «المملكة دولة ملكية شورية إسلامية مستقلة في داخليتها وخارجيتها وإدارة الملك بيد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل وهو مقيد بأحكام الشرع وجميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح».

ومتى التقى الملك عبد العزيز بالرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت؟.. التقى به عام 1945.. كم المسافة الزمنية بين التاريخين (1926ـ1945)؟.. المسافة الفاصلة عشرون عاما تقريبا.

إن الحقيقة السياسية المستخلصة من هذه المقارنات والمفارقات هي: أن الرئيس الأميركي روزفلت وهو يلتقي بالملك عبد العزيز كان يعرف (طبيعة النظام) الذي يلتقي بمؤسسه وقائده، يعرف أن طبيعة النظام (إسلامية).. وفي الوقت نفسه كان الملك عبد العزيز ـ وهو الخبير بالشؤون الدولية في عصره ـ كان يعرف طبيعة النظام الأميركي الذي يمثله روزفلت، يعرف أنه (نظام ديمقراطي رئاسي علماني).. ومع معرفة الزعيمين بالفروق السياسية الجوهرية بين النظامين: أقاما علاقات سياسية واقتصادية وحضارية متينة بين البلدين.. ومن أقوى البراهين على متانتها أنها تنامت وتضاعفت منافعها للطرفين على مدى عقود عديدة مديدة.. وليس واقعيا من يقول: إنه لم تكن هناك وجهات نظر مختلفة بين البلدين في هذه القضية أو تلك، بيد أن (النسيج الأساسي) العام للعلاقة ظل قويا ومتماسكا. وخاصية (الاحترام المتبادل من الطرفين، لكلا النظامين) لم تكن (مجرد ذكريات تاريخية).. لا.. فهذه الخاصية الكبرى (التي هي في تقديرنا أقوى أسباب استمرار العلاقة) مستمرة حتى يوم الناس هذا. ولسنا نقول كلاما مجردا من التوثيق، بل بين أيدينا ما يوثق ظاهرة (استمرار الاحترام المتبادل).

عام 2005 زار الملك عبد الله بن عبد العزيز (الأمير عبد الله بن عبد العزيز يومذاك) زار الولايات المتحدة الأميركية وعقد عددا من اللقاءات السياسية مع القيادات الأميركية.. وقد صدر عن الزيارة واللقاءات: بيان سعودي أميركي مشترك، تبدت فيه (بوجه خاص وبعمق ووضوح): خاصية (الاحترام المتبادل) من الطرفين لطبائع كلا النظامين: أـ بالنسبة لاحترام الولايات المتحدة لطبيعة النظام السعودي نقرأ في البيان: «أن الولايات المتحدة تحترم المملكة العربية السعودية كمنبع للإسلام الذي هو من أعظم الأديان في العالم، وكونها مهدا للعقيدة الإسلامية، وراعية للحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وإدراكا منها (أي أميركا) أن في مقدور الأمم أن تنشئ المؤسسات التي تعكس تاريخها وثقافتها وتقاليد مجتمعها، فإن الولايات المتحدة لا تسعى إلى فرض نمطها في الحكم على حكومة وشعب المملكة العربية السعودية». بالنسبة لاحترام السعودية لطبيعة النظام الأميركي نقرأ في البيان: «إن المملكة العربية السعودية بدورها تدرك مبادئ الحرية التي قامت على أساسها الولايات المتحدة بما فيها الحريات المهمة التي وردت في المادة الأولى من الدستور الأميركي، وتقدر الدور التاريخي الذي لعبته الولايات المتحدة لوضع حد للاستعمار والإمبريالية ودعوتها لحق الشعوب في تقرير مصيرها».

تبين مما تقدم: أن في السعودية والولايات المتحدة نظامين سياسيين اجتماعيين مختلفين، وأنه على الرغم من وجود هذا الاختلاف قامت علاقات استراتيجية وثقى بين البلدين.. وهذه ظاهرة ترقى إلى مستوى (منهج) ينبغي استصحابه دوما في العلاقات الدولية. فـ(التطابق) بين الأنظمة السياسية لم يحدث في التاريخ، ولن يحدث في الحاضر والمستقبل.. هذه حقيقة.. والثانية: أن التطابق لا داعي له قط.. والثالثة: أنه لو ربط أحد بين التطابق الفلسفي والعلاقة المصلحية، لما صحّت أو قامت علاقة ما بين الدول.. والرابعة: أن الإصرار على التطابق (كفران بالتعددية) الأرسخ والأوسع على مستوى الكوكب. وإنا لنهدي هذا المقال إلى المفكر الأميركي الكبير: الأستاذ زبغنيو بريجنسكي.