استراتيجية مواجهة الإرهاب لا تزال غير مكتملة

TT

قدم رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون وباكستان لمجلس العموم البريطاني يوم الأربعاء استراتيجية جديدة في أفغانستان.

في الأسبوع نفسه ألقى سابقه توني بلير محاضرة في شيكاغو طور فيها، من الناحية العملية، محاضرة ألقاها قبل خمس سنوات وسمتها الصحافة مبدأ بلير لنوع جديد من التدخل «الليبرالي» غير التدخل المعروف (المادة 52) دفاعا عن خطر محتمل، وإنما دفاعا عن مبادئ الميثاق العالمي لحقوق الإنسان إما لتخليصه من ديكتاتورية لا سبيل آخر لدحرها سوى العمل العسكري (كهزيمة الطالبان في أفغانستان أو ديكتاتورية البعث في العراق)، أو لحماية أقليات مضطهدة أو حق الأفراد في اختياراتهم الحرة.

وللحق لم يغير بلير موقفه حسب اتجاه الريح الانتخابية كما يفعل الساسة بل خاض بمبدئه انتخابات نجح فيها، وظل متمسكا به بعد ترك الحكم رغم حاجة مركزه لحوار الأديان للتبرعات من جهات تعارض هذا المبدأ.

دعوة بلير لمكافحة الإرهاب لا يمكن دمغها بالدفاع عن مصالح معينة ـ فالرجل لم يعد يمثل بلدا معينا ـ فضحايا الإرهاب اليوم من جميع الأديان والأعراق من الهند حتى المغرب مرورا بتركيا والأردن والسعودية ومصر.

والمبدأ لحماية حق الإنسان الفرد في اختيار المأكل والملبس والمشرب واللغة والعقيدة وشريك الحياة ومكان الإقامة، وحرية اختيار ما يشاهده من فنون وما يقرأه من كتب وصحف دون إكراه أو توجيه من قوة سياسية أو دينية. فحرية الاختيار ليست حكرا على ثقافة أو قومية دون غيرها.

والاتفاق اليوم إن مصدر أكبر خطر يهدد حرية الإنسان، وربما سلام العالم، هو إرهاب تمركزت قيادته على مناطق حدود باكستان ـ أفغانستان. فاحتلال الطالبان لمناطق على بعد 60 ميلا فقط من العاصمة الباكستانية إسلام آباد (أخرجتهم منها قوات باكستان الأربعاء)، ذهب أبعد من مجرد إرهابهم للسكان لفرض الشريعة بالتفسير الطالباني الملتوي، بمنع تعليم البنات وحرق محلات الحلاقين والمكتبات ودور الثقافة؛ إلى دق أجراس الخطر حول العالم باحتمال وقوع أسلحة أو مواد نووية في أيدي هؤلاء المشعوذين.

ولا أظن كثيرين يخالفون بلير في دعوته لضرورة دعم حكومة باكستان المنتخبة ديموقراطيا بكل السبل لحرمان الطالبان من الادعاء أنهم انتصروا في معركة عسكرية تستغلها منابر إعلامية تدعمها القوى المعادية للحرية والسلام.

وقد رأينا كيف لوت هذه المنابر عنق الحقائق على الأرض وأغمضت عيونها عن الخراب الذي حل بلبنان وبنيتها التحتية وآلاف الضحايا من الجانبين وأغرقت الشاشات ببروغاندا إيهام الناس بانتصار حزب الله ـ فرع لبنان في الحرب التي بدأها، بأوامر من طهران، ضد إسرائيل.

والى جانب الربط بين الإعلام والحسم العسكري ضد الإرهاب، ركز بلير أيضا على ضرورة مواجهة فكر الإرهاب في عقول الناس.

استراتيجية براون الجديدة ترصد قرابة أربعة مليارات من الجنيهات وتحدد العدو في تحالف الطالبان ـ القاعدة، وأرض المعركة بمناطق حدود باكستان ـ أفغانستان لكنها غير واضحة في نقطتين.

كيف يقنع براون الحلفاء الأوروبيين بزيادة القوات ليس عددا فحسب، بل كيفا بالاشتراك في القتال؟

فلا يقاتل على مناطق الحدود الباكستانية الأفغانية سوى البريطانيين (الأكثر عددا وتحملا للخسائر البشرية) والكنديين والاستراليين والهولنديين.

بعض الحلفاء يشاركون بقوات تعد على أصابع اليد الواحدة.

والبعض بشروط معقدة تعني تجنب القتال. فالدستور الألماني يحرم خوض القتال خارج الحدود لأسباب تاريخية تعود لتجربة النازية المريرة. لكن الألمان يرفضون إرسال خبراء بوليس لتدريب الشرطة الأفغانية بحجة أنهم قد يضطرون لإطلاق النار على مجرمين أو مطاردة مهربي مخدرات، مما يعتبر عملية قتالية.

ونجاح استراتيجية هزيمة الطالبان يتطلب إيجاد آلية لإقناع الحكومة الألمانية بسخافة الحجة. فماذا يمنع وزير الخارجية الألماني من مناقشة لجنة العلاقات الخارجية في البوندشتاج ( برلمان ألمانيا) لشرح الفرق بين البوليس وبين الجيش؟

مطلوب ديبلوماسية تواجه حكومات كالألمانية (على سبيل المثال لا الحصر): هل لديها الإرادة لمواجهة جذور الإرهاب على خط القتال الأول (أفغانستان وباكستان) أم لا؟

النقطة الأخرى تغيير العقليات نحو الأفضل.

والسبيل معالجة مؤسسة «المدرسة» التي يتم فيها غسل أدمغة الصبية الصغار منذ سن الخامسة، بتفسير مشوه للقرآن وبشطب أي معان عن التسامح وقبول الآخر والمساواة بين الجنسين من مناهج تعليم الدين.

كما تدربهم على عمليات الإرهاب واستعمال السلاح، وما إن يبلغ الصبي الثالثة عشرة حتى يصبح مقاتلا في صفوف الطالبان، ولا يدري من أمور الدنيا والدين شيئا إلا ما سكبه معلمه الطالباني في رأسه منذ الصغر، التقاليد تلعب دورها بالطبع في خيارات تعليم الأطفال؛ لكن الاقتصاد ـ وهنا بمعنى الحالة المالية ـ هو العنصر الأساسي.

فكل «الطلاب» تقريبا من أسر فقيرة، «يرتاح» أربابها من مصاريف الأولاد والإنفاق عليهم بإرسال الصبية لـ«المدرسة». ويتسلم الملا (المعلم) الولد، وتتولى المدرسة إطعامه، وتوفير الملبس والمأوي، ويغرس الملا في دماغه الولاء لعشيرته الجديدة المكونة من زملائه الطالبان (لكلمة تعني الطلاب).

ومشكلة «المدرسة» كبذرة تزرع الإرهاب في عقول الصبية استعصى على حكومة باكستان حلها في عهد الرئيس السابق الجنرال براويز مشرف.

فالأمر يحتاج إرادة قوية، وميزانية بالغة الضخامة.

فلا بد من إجراء أمني لإعادة هذه المدارس تحت سيطرة وزارة المعارف الباكستانية، وهي مهمة خطرة لحراس الحدود والشرطة.

ولا يمكن تطبيق الخطة الأمنية دون تحسين مستوى معيشة أولياء أمور التلاميذ الذين توفر لهم «مدرسة» الطالبان المأوى والمأكل والملبس.

الاستراتيجية تتطلب خطة جريئة لصرف منحة مالية مستمرة لأب كل تلميذ مقابل حضوره مدرسة الحكومة.

وللأسف فإن موهبة براون الديبلوماسية على المسرح العالم، أدنى كثيرا من مستوى مثيلتها عند سابقه توني بلير؛ لكن هذا ليس سببا أو مبررا يدفع العالم للتقاعس.

فالبلدان التي تمنع جنودها الاشتراك في القتال عليها تقديم العتاد (وهناك مثلا نقص مخجل في طائرات هليكوبتر الشينوك الأفضل لنقل الجنود في المناطق الجبلية على الحدود). أو تقديم الدواء، أو محاصيل زراعية مربحة بدلا من محصول نبات الأفيون في أفغانستان الذي يمول الطالبان؛ والأهم لا بد من تقديم كل دول العالم دون استثناء ـ وفي مقدمتها البلدان الإسلامية ـ دعما ماليا مستمرا في صندوق لدعم مشروع القضاء على مدارس الطالبان في باكستان وأن يستبدل بها مدارس عادية تعلم الأطفال كيف يشبون بشرا صالحين لا إرهابيين طالبانيين.

ودون التعامل مع هذه الأولويات والنشاط في ديبلوماسية فاعلة وطويلة المفعول، سينتهي الأمر باستراتيجية رئيس الوزراء براون الجديدة إلى ملف النسيان في أرشيف التاريخ، ويتذكرها البعض فقط مع كل عملية إرهابية جديدة يقتفي المحققون أثرها إلى باكستان.