الوطن أولا

TT

أخطأت عناوين الأخبار التي ظهرت في الفترة الأخيرة حول لورانس سمرز تماما في نقل الصورة الصحيحة، حيث أعلنت هذه العناوين على نحو حمل في طياته قدرا بالغا من الإثارة أن سمرز تقاضى قرابة 8 ملايين دولار العام الماضي، جاء الجزء الأكبر منها من صندوق التحوط «دي. إي. شو». أما العنوان الذي كنت أفضل كتابته عن لورانس فهو: «تراجع أجر مسؤول بما يزيد على 7.9 مليون دولار».

والواضح أن هذا التوجه الذي أقترحه مختلف عن ذلك الذي تفضله وسائل الإعلام الساعية وراء الإثارة، التي تنظر إلى أمثال هؤلاء المسؤولين باعتبارهم لصوصا ويجابهون تعارضا للمصالح، ويتسمون بضعف بالغ يجعلهم عاجزين عن النجاح داخل القطاع الخاص. لكن الحقيقة مغايرة لذلك، حيث يثبت الواقع وجود أشخاص ناجحين على استعداد للتضحية بأموال ضخمة وقدر كبير من مساحة الخصوصية التي يتمتعون بها كي يعملوا على خدمتي وخدمتك.

ويعد سمرز واحدا من هؤلاء الأشخاص، حيث تقاضى من «دي. إي. شو» 5.2 مليون دولار العام الماضي، كي يتولى مقابلة العملاء المهمين. علاوة على ذلك، قدم سمرز إلى الشركة خدماته كخبير اقتصادي، بينما تعرف سمرز في المقابل على كيفية عمل صندوق تحوط على درجة كبيرة من النجاح. في الوقت ذاته، حصل سمرز على ما يقارب 2.7 مليون دولار كأجر من منظمات وشركات أخرى عن أحاديث ألقاها، مما يعني أنه كان يتمتع بقدر كبير من الأمان المالي.

ومع ذلك، ضحى سمرز بكل ذلك من أجل تولي مهام منصب في شارع الأحلام المحطمة، بنسلفانيا أفنيو. وكذلك الحال مع مستشار الأمن القومي جيمس إل. لونز، الذي كان يتقاضى حوالي مليوني دولار سنويا. وبالمثل، ودع ديفيد أكسلرود ـ الذي اضطلع بإدارة شركات تعنى بالعلاقات العامة قبل انضمامه إلى البيت الأبيض ـ أجرا يقدر بـ1.5 مليون دولار على الأقل، تقاضاه العام الماضي، علاوة على بيعه لحصته في شركاته. وينطبق القول ذاته على أعضاء آخرين بإدارة أوباما تخلوا عن ثروات طائلة وأوقات فراغ وقدر كبير من الخصوصية، وأثبتوا بذلك أن المال ليس كل شيء.

وهذا هو السر الحقير الصغير لواشنطن. ولست أرمي من وراء ذلك إلى تصوير هؤلاء المسؤولين أو غيرهم من أعضاء الإدارة كرهبان زاهدين، نظرا لأنهم ما زالوا يتمتعون حتى الآن بالأضواء والسلطة. في الواقع، يتخذ هؤلاء المسؤولون على قدر بالغ من الأهمية، ترقى في بعض الأحيان لأن تصبح مسألة حياة أو موت. وإذا كانوا محظوظين، يفوزون بذكر أسمائهم في كتب التاريخ. إن نمط الحياة الذي ينتهجونه ليس بلا مقابل.

بيد أنه في الوقت ذاته، قليلون منا يقبلون خفض أجورهم بمقدار يبلغ عدة ملايين من الدولارات. ورغم أن شخصا مثل سمرز باستطاعته تعويض ذلك لاحقا، فإن هذا الأمر لا ينطبق على الجميع.

وسبق أن أطلق رونالد ريغان عبارته الشهيرة: «الحكومة ليست الحل لمشكلاتنا، وإنما هي المشكلة». وكان من شأن هذه العبارة، التي تشكل لب ما يطلق عليه الثورة الريغانية، تشويه صورة الحكومة ومسؤوليها. وجاءت عبارة ريغان لتسحب دعوة جون إف. كينيدي للموهوبين فكريا للقدوم إلى واشنطن والتعرف على ما يمكنهم تقديمه لبلادهم. لكن ريغان بعث برسالة مختلفة، حيث أصبحت الخدمة الحكومية من وجهة نظره مجال الضعفاء والمبالغين في توخي الحذر. أما إذا أردت خدمة بلادك عن جد، فعليك التخلي عن واشنطن والعمل على جني المال. والآن، أشرق نور الصباح مجددا على أميركا.

في الحقيقة، يستحق باراك أوباما إشادة بالغة لقضائه على التحول الذي أقره ريغان. والآن، باتت واشنطن مفعمة بأناس عاقدين العزم على تنفيذ المهام التي كلفوا بها. وازدهرت العاصمة مجددا بالعقول النابغة المتوافرة أمام أوباما الذي اتخذ مسارا مغايرا عن الأعوام الثمانية الماضية التي غلبت الآيديولوجية خلالها على التحليل. إننا نمر بحالة من الفوضى، وتتمثل أحد الأسباب وراء ذلك في أن الأشخاص الذين كان باستطاعتهم رصد بوادر الفوضى أو إيجاد حل لها تم إخبارهم بأن عليهم البقاء خارج الحكومة.

في ظل ثقافتنا القائمة على الفضائح، أصبح لزاما تشويه صورة المسؤولين الرسميين والبحث عن نقطة تعارض للمصالح بالنسبة لهم. ومع ذلك، يبقى هناك أشخاص أمثال سمرز تخلوا عن الثروة من أجل الخدمة في الحكومة. ولا شك أن لهم أسبابهم الخاصة التي دفعتهم لاتخاذ هذا القرار، لكن بغض النظر عن هذه الأسباب، نبقى نحن المستفيد الأول ـ وليس هم ـ بقرارهم هذا.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»