محنة العراق بين الغياب العربي والتغلغل الإيراني

TT

كان للغزو الأمريكي للعراق مضار كثيرة لا تعد ولا تحصى، فهي تتمثل في حدها الأدنى، في الانتهاك الصريح للقوانين والمعاهدات الدولية عبر غزو دولة مستقلة ذات سيادة تحت غطاء مبررات ملفقة وحجج واهية وادعاءات باطلة. كما أثمر الغزو والاحتلال عن انتهاك فاضح لحقوق الإنسان في العراق، حيث تقع بعض ممارسات سلطات الاحتلال، ضمن هذا الإطار، في خانة الجرائم الخطيرة ضد الإنسانية، وهي التهم نفسها التي وجهتها محكمة قوات الاحتلال للقيادات العراقية السابقة. ومع ذلك فقد كان لهذا الغزو والاحتلال منفعة كبيرة للعرب بصفة عامة ولدول مجلس التعاون الخليجي بصفة خاصة، فقد كشف قدرة وبراعة الإيرانيين في استغلال كل فجوة يصنعها الآخرون، واستعدادهم غير المحدود لاستغلال أي أخطاء ترتكبها أطراف أخرى من أجل خدمة المصالح القومية العليا للدولة الإيرانية.

وقد كان من بين الأخطاء الجسيمة أو بالأحرى الخطايا المتعمَّدة أو غير المتعمَّدة لمخطِّطي الاحتلال الأمريكي للعراق، توظيف ظاهرة التنوع الطائفي والعرقي الذي يزخر به المجتمع العراقي كأداة لإدارة العملية السياسية في الدولة، واستغلال سلطات الاحتلال قيادات ومجموعات سياسية تعتمد بشكل علني وصريح الأسس والمنطلقات الطائفية أو العرقية كهُوِيّات لبرامجها السياسية. وقامت هذه القيادات والتنظيمات السياسية ـ وأغلبها يمتلك تنظيمات شبه عسكرية ـ بمهمة تعميق حالة التعددية والاختلافات الطائفية والعرقية ـ التي توجد في أغلب دول العالم ـ وتحويلها إلى خلافات حادة، ثم إلى أداة أساسية في الصراع السياسي الدامي الذي شهدته البلاد منذ الأشهر الأولى للاحتلال وحتى اليوم. وكان للقيادات والجماعات الطائفية الشيعية، والقيادات والجماعات العرقية الكردية دور بارز في تثبيت أسس الصراع على ركائز الانتماءات الطائفية والعرقية، والعمل بكل جهد على تدمير الأسس التقليدية التي قامت عليها الدولة العراقية منذ نشأتها والتي شكّلت جوهر الانتماء الوطني العراقي، والانتماء القومي العربي لمواطني الدولة من العرب. ونجحت هذه القيادات والجماعات التي سيطرت على زمام السلطة بفضل الغزو والاحتلال في تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في إحلال الهوية الطائفية أو الهوية العرقية محل الهوية العراقية الوطنية.

وكان للتخطيط الاستراتيجي الإيراني دور بارز في دعم هذه الظاهرة الخطيرة وتبنيها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد تبنت القيادات الإيرانية السياسية والدينية والمخابراتية وحتى العسكرية، كلٌّ في اختصاصه، مهمة توفير الدعم والمساندة للقيادات والجماعات الشيعية ذات الصبغة الطائفية الموثقة في برامجها السياسية وفي خطابها الإعلامي والسياسي.

فالقادة الإيرانيون، وعلى جميع مستوياتهم، لا يترددون في توظيف واستخدام الورقة الطائفية. وفي هذا السياق، فقد قاموا بتقديم الدعم للجماعات السياسية الطائفية بشكل علني وبوسائل متعددة، خاصة من خلال الدعوات التي تُوجَّه لهذه القيادات السياسة العراقية لزيارة طهران، ومن خلال التصريحات الصحفية اللاحقة لكل زيارة أو اجتماع. فالفارق الجذري بين القيادات الإيرانية والقيادات العربية هنا أن القيادات الإيرانية تعتبر أن من واجبها المنطقي والطبيعي والشرعي أن توفر الدعم والمساندة للجماعات والقيادات السياسية الشيعية. ومن الناحية العملية أثبتت هذه السياسة دورها الكبير في تأسيس مراكز القوى التي تخدم المصالح الاستراتيجية العليا للدولة الإيرانية بشكل ناجح وفعال.

ولطالما شكت وتظلمت القيادات العربية السنية في العراق من تجاهل ذوي القربى، وكثيرا ما عبّرت هذه القيادات عن عدم الرضا تجاه مواقف وسياسات الدول العربية المتعلقة بالعراق، حيث إن أغلب القيادات السياسية العربية تتجنب تحت طائلة من الأعذار والمبررات غير المنطقية لقاء القيادات السياسية للمجتمع العربي السني في العراق سرا أو علنا. وتشمل قائمة المبررات والأعذار التي تدعو إلى عدم التواصل مع القيادات العربية السنية أسبابا معلنة وأسبابا غير معلنة. فما هو معلن ينصب على «عدم الرغبة في التدخل في الشؤون الداخلية للعراق»، أو «عدم الرغبة في تعميق الانقسام والصراع الطائفي داخل العراق»، أو غيرها من المبررات التي تُصنَّف اليوم ضمن الخيال السياسي والعالم الافتراضي الذي لا يمت للواقع العراقي بأية صلة. أما الأسباب غير المعلنة فتتمثل على الأرجح في عدم الرغبة في إغضاب أو إزعاج الحكومة العراقية رغم صبغتها الطائفية الواضحة، أو عدم الرغبة في إغضاب الجانب الأمريكي رغم الأخطاء القاتلة، وربما هناك سبب آخر، أو إضافي يخص بعض الدول العربية والخليجية يتمثل في الرغبة في تجنب إثارة حفيظة طهران التي تعتبر العراق ساحة احتكار للدور الإيراني، ولن تنظر بعين العطف أو الرضا تجاه أي منافس محتمل.

وفي ضوء ما سبق، فإن الموقف العربي الصائب يُفترض فيه أن يقف ضد التقسيمات والصراعات الطائفية والعنصرية، ويتجنب كل ما يُضعف الشعور الوطني أو القومي، هذا الموقف، رغم صوابه وعقلانيته، لم يَعُدْ مع الأسف له قيمة حقيقية على الأرض وأمسى موقفا «نظريا ومثاليا» تجاوزته التطورات السياسية في العراق، بل بات يعكس سياسة العجز العربي. فالتدخل الخارجي وتوفير الدعم الخارجي السياسي والمالي واللوجستي هو السمة الرئيسية التي تتحكم اليوم في التطورات السياسية على الساحة العراقية.

إن الدعوة للتواصل العربي والخليجي مع القيادات السياسية للمجتمع العربي السني في العراق لا تشمل الدعوة للتواصل مع المجموعات الإرهابية بأي شكل من الأشكال، فالخلط بين القيادات السياسية الشرعية للمجتمع العربي السني في العراق والمجموعات الإرهابية يصب في مصلحة أعداء العراق بشكل قاطع. ولا يمكن استخدام قرار عدم التواصل مع قيادات المنظمات الإرهابية كعذر للامتناع عن التواصل مع القيادات السياسية. ولا يمكن استخدام القطيعة مع الإرهابيين كمبرر لمقاطعة القيادات السياسية الشرعية للمجتمع.

أبواب طهران وآذان القيادات الإيرانية أمست مشرعة ومنصتة ليست فقط للقيادات العراقية الشيعية والكردية فحسب، بل إنه في ظل الغياب العربي والخليجي، تحاول طهران اليوم فتح أبوابها لاحتضان القيادات العربية السنية. فالقيادات الإيرانية وخاصة خلال الأشهر الماضية دأبت على توجيه الدعوات العلنية والدعوات الخاصة للقيادات العربية السنية في العراق للقيام بزيارة طهران للتداول. وهذا الأمر لا اعتراض عليه ولا يوجد مبرر لقطع علاقات القيادات العربية السنية مع أي جهة تود التفاوض. المشكلة هنا لا تكمن في موقف طهران بل بموقف وسياسة الدول العربية والخليجية بالتحديد التي يهمها مستقبل العراق بشكل مباشر. ويشكل الوضع العراقي جزءا من حساباتها الاستراتيجية. لذا نجد أن الوقت ما زال ملائما لفتح جسور التواصل بين قيادات المجتمع العربي السني في العراق مع الالتزام في الوقت ذاته بثوابت وحدة العراق وسيادته وسلامة أراضيه ورفض أية محاولات للتقسيم والتجزئة. إن تمدد الدور الإيراني في العراق هو محصلة لعوامل عديدة، أبرزها خطايا السياسة الأمريكية وغياب الدور العربي في العراق، لذا فقد آن للدول العربية أن تدرك حقيقة الوضع على الأرض وتتحرك بفاعلية من أجل محاصرة التدخلات الخارجية وبخاصة الإيرانية في شؤون العراق الداخلية.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]