محاولة لقراءة العقل السياسي لنتنياهو؟

TT

تشعر إسرائيل اليوم أنها قد أصبحت سيدة الشرق الأوسط، أو أنها أميركا الشرق الأوسط إن صح التعبير، ويتعزز هذا الشعور مع قدوم بنيامين نتنياهو إلى الحكم مجددا، وهو الصهيوني المتعصب، والغارق في ثمالة الإيديولوجيا، فمن ذا الذي يستطيع أن يمنع إسرائيل أو نتنياهو من القيام بما تشاء، وكيفما تشاء؟ ضعف عربي، مترافق مع ظرف دولي متسامح إسرائيليا، ممزوج بحالة يأس شعبي عربي في ظل سقوط كل الأيديولوجيات التي أدمنها العرب طويلا، بدءا من القومية، وانتهاء بالأصولية، مرورا بلحظات يسار سريعة. كل الظروف تبدو لنتنياهو ومستشاريه ملائمة تماما لتحقيق حلم تكوين دولة يهودية قوية في داخلها، ومسيطرة تماما على محيطها.

عند التحليل العميق للصهيونية، نجدها تقوم على ركنين رئيسين: القابلية للتوسع الدائم، ودوام الاعتقاد بعداء الآخر، وهو الآخر الذي يجب أن يكون موجودا على الدوام، سواء على وجه الحق، أو بابتداعه ابتداعا. فعندما كان هتلر يتحدث عن «المجال الحيوي» للرايخ وحقه في التوسع والاستعمار، وعندما كان موسوليني يتحدث عن «غزو النجوم» عندما لا يصبح هناك متسع من الأرض، فإنما كانا يعبران عن النزعة التوسعية الدائمة في أي إيديولوجيا قومية شوفينية. وقد عبر ثيودور هرتزل (1860-1904)، صاحب كتاب «الدولة اليهودية»، ومؤسس الصهيونية السياسية الحديثة، عن ذات النقطة في الكتاب آنف الذكر. ففي مذكراته، يذكر حديثا دار بينه وبين الأمير هوهنلوهي، مستشار الإمبراطور الألماني قال فيه: «وسألني أيضا عن الأرض التي نريد وما إذا كانت تمتد شمالا حتى بيروت، أو أبعد من ذلك. وكان جوابي سنطلب ما نحتاجه، وتزداد المساحة المطلوبة مع ازدياد السكان» (ذكرها يوسف هيكل في كتابه: فلسطين، قبل وبعد ص 100). وفي موقع آخر من المذكرات، يقول هرتزل: «الحكومة التركية طلبت أربعين مليون فرنك، وعرضت أن تعطينا مقابل ذلك امتياز إنشاء خط حديدي بين البحر المتوسط والخليج الفارسي، بالإضافة إلى حق إقامة جاليات ومستعمرات في فلسطين ضمن مساحة قدرها سبعون ألف كيلومتر مربع» (المرجع السابق، ص 100). ومن المعلوم أن مساحة فلسطين في ظل الانتداب البريطاني، لم تكن تتجاوز ستة وعشرين ألف كيلومتر مربع.

وفيما يتعلق بالنقطة الثانية، نجد أن عقيدة العداء الدائم من قبل الآخر، أي آخر، هي جزء لا يتجزأ من محاولة الإيديولوجيا الشوفينية إضفاء انسجام مفترض على جماعة من البشر، بغرض خلق أمة متميزة، أو جماعة سياسية، أو نحو ذلك، وفق الخطوط العامة التي تحددها الإيديولوجيا. فهتلر كان يفترض أن هناك مؤامرة دائمة ضد العرق الآري، والعنصر الجرماني تحديدا، من أجل إبعاده عن مسرح الإبداع ومسار الأحداث، وهو العرق الذي خلق الحضارة، وبدون هذا العرق، أو بتلويث نقائه، تندثر الحضارة. وموسوليني كان يتحدث دائما عن الأخلاق الرومانية الرائدة. وفي «الدولة اليهودية»، يقول هرتزل: «إننا شعب واحد، وأعداؤنا جعلوا منا شعبا واحدا بالرغم منا، كما يحدث ذلك مرارا في التاريخ. الشدائد ربطتنا معا» (المرجع السابق، ص 94).

ما يفرق الصهيونية عن بقية الأيديولوجيات القومية، التي يحاول أصحابها التعبير عن أمم وشعوب وبلاد قائمة وراسخة، هو الوضع التاريخي لليهود في العالم، وانعكاسات ذلك على أوضاعهم اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا، وأثر ذلك كله على المحتوى الأيديولوجي للصهيونية. فمن الناحية الاجتماعية، عاش اليهود غالب تاريخهم في أحياء منعزلة، أو «غيتوات» منعزلة عن المجتمعات التي يعيشون فيها، كأحد الوسائل لتجنب الذوبان في تلك المجتمعات. ومن الناحية الاقتصادية، عاش اليهود وليس لهم إلا رب واحد، كما قال ماركس، وهو اليهودي الأصل، في «المسألة اليهودية»، ألا وهو الذهب. وذاك راجع إلى الإحساس بعدم الأمان والاستقرار في أي مجتمع يعيشون فيه، وبالتالي فإن الذهب هو طوق النجاة الوحيد. بطبيعة الحال لا يسري مثل هذا التحليل على كل اليهود فردا فردا، وليس موقفا سلبيا من اليهود كجماعة من البشر، ولكنه يعبر عن سمات تاريخية عامة حين تحليل التاريخ اليهودي العام. ونفسيا، تولد لدى اليهود قناعة نفسية جماعية على أنهم غير مرغوب فيهم في أي مجتمع يعيشون فيه أو يتعاملون معه، حتى لو كانت الظواهر تقول غير ذلك. فهرتزل، ومن قبله ليوبينسكر (1821-1891)، رددا أن عداء اليهود شيء متأصل في النفس البشرية.

الصهيونية تحمل في طياتها كل عقد اليهود التاريخية، وتجسد كل تاريخ اليهود كما هو متصور، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو النفسية. ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم سياسات نتنياهو الماضية، وما يمكن أن يفعله مع عودته إلى السلطة في إسرائيل، بصفته نموذجا للفكرة الصهيونية في أنقى صورها. ففي مقال قديم للكاتب الإسرائيلي «عمانوئيل سيفان»، يناقش فيه العلاقة بين بنيامين نتنياهو ووالده، المؤرخ اليهودي بنزويون نتنياهو، يقول: «والخلاصة التي توصل إليها بنزويون واضحة: الغوييم (غير اليهود) سوف يشككون دائما باليهود، وسوف يحسدونهم ويكرهونهم. حتى أحوالهم الجيدة حاليا في الولايات المتحدة وأوروبا هي خدعة ووهم. أما الوسيلة الوحيدة لهم للخروج من كل هذا، فهي أن يكون لهم دولة خاصة بهم. لكن حتى هناك، كما يرى نتنياهو الأب، على اليهود أن يبقوا دائما على سلاحهم. فالأعداء يصولون ويجولون في الجوار كله، وحائط الحديد (وهي الفكرة المأخوذة عن معلمه غابوتنسكي) هو ما ينبغي الحفاظ عليه وتعزيزه. فالقوة العسكرية والجماعية القومية الصحية هما الضمانتان الأخيرتان للبقاء على قيد الحياة كجماعة. ذلك أن الغوييم سيبقون دائما غوييم، أي لا ساميين، حتى لو كانوا من أصل سامي كما هي حال العرب، وهكذا فحظ الاندماج في منطقة الشرق الأوسط لن يكون أفضل من حظ الذوبان في إسبانيا وألمانيا» (عمانوئيل سيفان، «بنيامين نتانياهو وأبوه»، جريدة الحياة14 يوليو، 1997).

إذا كانت «المشكلة اليهودية» في أوروبا قد حلت بقيام الدولة اليهودية خارج أوروبا، وفي فلسطين تحديدا، وانتصار الديمقراطية داخليا، فإن العقدة اليهودية ضاربة في أعماق التاريخ والنفس اليهودية بالرغم من كل شيء. وهذه العقدة تقوم على الرغبة اليهودية في الاندماج في المجتمعات التي تعيش فيها، وعدم الرغبة في ذات الوقت. الرغبة في الاندماج بدافع تجنب الشذوذ الذي يقود إلى الاضطهاد، كما حدث في التاريخ الأوروبي، وعدم الرغبة في الاندماج بهدف الحفاظ على المقومات الخاصة «لشعب الله المختار». كما تقوم هذه العقدة على إحساس يهودي عام بأن اليهودي غير مرغوب فيه في أي مكان، حتى وإن بدا الأمر غير ذلك. وطرح بنزويون نتنياهو السابق، خير توضيح لمثل هذه النقطة.

وعلى ذلك، فإن نتنياهو حين يقول إنه يريد السلام، فإنه صادق في قوله. ولكن السلام الذي يريد ليس السلام المتعارف عليه بين كافة الأمم حين تسعى إليه في أعقاب حرب أو نحوها، وإنما هو سلام صهيوني خاص. سلام يضع في مقدمة أولوياته أمن الدولة اليهودية المطلق، وحقها في التوسع على «أرض إسرائيل» وفق حاجاتها، وفق مقولة هرتزل بأن حدود الدولة اليهودية تتحدد وفقا لحاجات سكانها. وحقها في الحركة الاقتصادية الحرة في «مجالها الحيوي»، الذي هو منطقة الشرق الأوسط. وأخيرا حقها في حرية امتلاك السلاح، مهما كان نوعه، وبأي كمية كانت، في سبيل الحفاظ على توازن قوى في منطقة اصطنعت فيها إسرائيل اصطناعا. ولكن في مقابل هذا السلام، ماذا ستعطي الدولة اليهودية للطرف الآخر، الطرف الذي تقيم معه السلام؟ الكف عن الحرب معها، هذا هو كل ما يمكن أن تمنحه الدولة اليهودية في العقل السياسي لنتنياهو. وهذا هو بالضبط معنى شعار «السلام مقابل السلام» الذي كانت تطرحه حكومة نتنياهو وتكتل الليكود، وهو شعار المرحلة القادمة في إسرائيل مع عودة نتنياهو. فإسرائيل، وفق نظرة اليمين الإسرائيلي الذي يضرب دائما على وتر العقدة اليهودية، لا يمكن أن تعيش دون الشعور الدائم بالخطر، الضروري لاستمرار تماسك الإيديولوجيا الصهيونية المؤسسة، التي هي حجر الأساس في تماسك الدولة والأمة. فاليهود أمة ودولة نتيجة هذه الإيديولوجيا، وبغيرها يعود اليهود مجرد أشتات مجتمعات ليس إلا، أو مواطنون في دولة لا يهودية. إسرائيل لا يمكن أن تعيش دون مجال حيوي اقتصادي تعمل فيه، ولذلك فهي بحاجة للسلام، وهذا ما أدركه رابين وبيريز وأولمرت، وطرحه بيريز في كتاب «الشرق الأوسط الجديد»، بعد أن أدركوا في النهاية أن الإيديولوجيا مهمة للتأسيس، ولكنها عقبة في طريق التكوين.

الخيار الذي سار وسيسير فيه نتنياهو، أي الوقوف ضد التسوية، لن يؤدي إلا إلى عدم استقرار ذات الدولة اليهودية في الختام. قد لا يرضى اليمين الإسرائيلي بتغير الحال، ويتشبث يإيديولوجيا صهيونية صافية، ولكنه لن يحافظ على تماسك المجتمع الإسرائيلي واستقراره. فالاستنفار الدائم، والدخول في مغامرات عسكرية بين الفينة والفينة، سيؤدي إلى تململ داخلي، وزيادة الرغبة في هجرة معاكسة، قد يكون مترافقا مع انخفاض في نسبة الهجرة إلى إسرائيل. وعدم الاستقرار سيقلل من الدور الاقتصادي لإسرائيل، سواء من حيث كونها مستقبل للاستثمارات، أو كونها مصدر للتكنولوجيا وغيرها من سلع وخدمات. وبدون العامل الاقتصادي، لا تستطيع إسرائيل أن تستمر في الوجود الفاعل.

من يتجاهل الحقيقة لا يصمد طويلا، والحقيقة هنا هي أن تتخلى إسرائيل عن صهيونيتها، والعقدة اليهودية التاريخية، وإلا فإن الفناء هو المصير، في محيط بشري قد يكون متخلفا وضعيفا اليوم، ولكنه باق ما بقيت الحياة.. وطابت لكم الحياة.