أزمة الخطاب الإسلامي في العراق

TT

أن يحذر إمام جمعة بارز في العراق من «خطر تغلغل البعثيين والعلمانيين في المجتمع» يعني أنه أخطأ مرتين، الأولى حينما ساوى بين البعث وبين العلمانية، والثانية حينما جعل العلمانيين ضدا دخيلا في مجتمع أنجب بدر شاكر السياب والجواهري والبياتي ومظفر النواب، في مجتمع كان حزبه الشيوعي يوما ما هو الأقوى والأقرب إلى الحكم من أي بلد شرق أوسطي آخر، وفي مجتمع كان لديه أعرض طبقة وسطى من أي بلد عربي آخر قبل أن يتم إهلاكها في حروب الماضي وتحت قمع السلطة ثم في ظل قمع الميليشيات. مشكلة خطاب الإسلاميين في العراق أنه حمل بذور سقوطه في لحظة هيمنته، ووضع أسباب رحيله في لحظة صعوده، لأنه اختار أن يكون خطاب رد الفعل، وابتنى نفسه على منطق الإقصاء والخوف، وخطاب الخوف لا يستطيع الصمود إلا في ظل قدرته على خلق مزيد من الأعداء المخيفين وفي إقناع الناس أنه حاميها الوحيد منهم، ولكن تجربة الإسلاميين في العراق انتهت إلى أن يكون الإسلاميون هم أشرس الأعداء لبعضهم وإلى أن تكون بعض نسخهم المتطرفة هي مصدر الخطر الأكبر على المجتمع.

لم يستطع منطق الإسلاميين أن يؤسس لعراق جديد بعد سقوط البعث، تدريجيا انزلق إلى أتون صراع أراده الآخرون ومع انزلاقه فقد زمام المبادرة وتحول إلى ما يشبه الرصاص المتبادل بين شركاء العقيدة وفرقاء المذهب، ثم بين شركاء المذهب وفرقاء المسلك. كان يعول على شراكة قديمة بين نخب الدعوة والإخوان في العراق ثم على تداع تاريخي فريد في ظل مجتمع متنوع دينيا وطائفيا، أن يتم إنتاج خطاب إسلامي عراقي يمتلك قدرة جذب الناس إليه وتوحيدهم حوله وليس تفريقهم، ويمتلك قدرة المبادرة عبر إنتاج فكر جديد قد يقترب مما اقترحه المفكر العراقي هادي العلوي عن اليسار الإسلامي، ولكننا رأينا تلك الشراكة أبعد ما تكون عن الاحتمال، فلا الإخوان بدوا إخوانا ولا الدعاة ظلوا دعاة، لقد خربت السلطة الجميع وصار الدعاة والإخوان لا يجيدون شيئا قدر الإيقاع ببعضهم.

يخطئ من يعتقد أن الأصولية الشيعية قادرة على حكم العراق وأن يظل العراق عراقا، ويخطئ من يتصور أن للأصولية السنية فرصة في حكم العراق وتبقيه عراقا، يخطئ من يعتقد أن فكر القاعدة قادر على أن يفعل أكثر من التخريب، ويخطئ من يعتقد أن الحل في استنطاق الشيعية السياسية لإنتاج بديل يرضي الجميع. لقد كان بإمكان الخيار الإسلامي أن ينجح لو أنه تجاوز الشرك الطائفي، وسواء كان الآخرون قد أوقعوه في هذا الشرك أو أنه اختاره بإرادته، فإنه ما عاد قادرا على الهروب منه إلا بالبحث عن منطلقات جديدة ليست الطبقة السياسية الراهنة بمعظمها مؤهلة لإنتاجه. إن الإسلاميين بحاجة إلى مراجعة كتلك التي تحتاجها كل التيارات التي صنعت أزمة العراق، لا سيما القومية، بشقيها العربي والكردي، واليسارية. أما العلمانية فهي لم تكن يوما ما تيارا سياسيا في العراق، لكنها صارت تطرح للتداول كرد فعل على احتكار الإسلاميين، صارت تعبيرا خجولا لرغبة مجتمعية للهروب من هذا الاحتكار، ثم صارت لدى بعض الإسلاميين بمثابة عدو جديد كامن ومتربص بهم وبإنجازاتهم التي لم يعد يراها أحد غيرهم.

هل هي مفارقة أن صعود المالكي اقترن بابتعاده تدريجيا عن أن يكون رجل حزب الدعوة الإسلامية، وأنه ومعظم شركائه الإسلاميين صاروا يتسابقون لإسقاط صفة الإسلامية عن قوائمهم الانتخابية، إنه في الحقيقة إدراك لعقم المراهنة على إنتاج حل سياسي يمر عبر الخطاب الديني فقد أثبتت التجربة في العراق أنك حالما تفكر بطريقة دينية لا بد أن تعلن أنك شيعي أم سني، وبإعلانك هذا تكون قد فقدت مقدما جزءا كبيرا من المستمعين. هذا التكيف يعبر عن نضج لدى البعض، لكنه ما زال غير قادر على إنتاج بديل متجاوز للهويات الصغرى لأن حامليه ما زالوا، في عيون من ينظر إليهم، أبناء الماضي. إن هيمنة الإسلاميين تكمن في أنهم غرفوا من الخزان الثقافي لمجتمع تشكل الهوية الدينية فيه عاملا رئيسيا، ولكنهم بدلا من أن يجعلوا ذلك استثمارا بناءً يسهم في إعادة تشكيل هوية البلد، فقد جعلوه ذخيرة لصراع بينهم كانت نتيجته بعد كل هذه الدماء صفرا.

الإسلاميون بحاجة إلى مراجعة لا تبدأ بافتعال خطر اسمه العلمانيون، وهم بحاجة إلى البحث عن مصالحة مع الذات تعيد النظر في مشروعهم الذي أفقدته سنوات السلطة القليلة بريقا كان يمتلكه زمن المعارضة الطويل. الناس الذين أنهكهم أمن مهدد بالاختراق في أية لحظة، وأتعبهم مشهد ذباحين يصرخون الله أكبر وهم يذبحون مسكينا أوقعته الأقدار بأيديهم القذرة، أو انتحاريين ينطقون الشهادة قبل تفتيت الفقراء من حولهم إلى أشلاء، هؤلاء الناس الذين أنهكهم غياب الخدمات والبطالة وضيق الحال، لن يسألوا من ينقذهم من مأزقهم إن كان يصلي أم لا، يصوم أم لا، يحج أم لا ، فذلك السؤال صار كريها وبلا معنى كما هو السؤال الذي اعتاد أن يردده ضباط الجوازات في المطارات العربية على أي عراقي قادم: هل أنت سني أم شيعي، وغالبا ما يسمعون إجابة منفعلة، أنا عراقي، وفي تلك الإجابة على الإسلاميين أن يبحثوا عن فكر جديد..