عفاريت على الشاشة

TT

أكذب لو قلت إنني لم أجرب الخوف من العفاريت. وأكذب، بالقدر نفسه، إذا قلت إنني التقيت في حياتي عفريتا.. فلماذا استمر خوفي من العفاريت إذن؟ جميع القرائن تدل على أن العفريت الذي يُفترض أنه يحوم حولي، منتظرا فرصة للظهور، لا يزيد على كونه فكرة طافت واستقرت في عقلي الباطن. من أين أتت تلك الفكرة؟ وكيف تسربت واستقرت ؟ تلك هي المسألة.. فأنا بنت ثقافة الحكايا والحواديت. وما أكثر الحواديت التي سمعت عن عفريت هنا وعفريت هناك، خاصة حين مارست حقي في الشقاوة الطفولية، أو أزعجت كبيرا بطلب لم يشأ أن يلبيه.

والحق أقول إن فكرة العفريت تراجعت إلى خلفية قليلة الأثر نسبيا، خصوصا بعدما حفظت عددا من سور القرآن الكريم. ولكن من دواعي الأسف أن الاعتقاد بأن العفاريت تتدخل تدخلا مباشرا في حياة الناس، ويسخرها بعض الأفاقين لتوقيع الأذى على البعض، وتخليص البعض الآخر من السحر وآثاره، ما زال فكرا واسع الانتشار في بعض قطاعات المجتمع. وكم شعرت بالفزع حين قرأت نبأ نُشر في صحيفة سعودية عن أم قتلت طفلتها، بزعم إخراج العفاريت من جسدها. تلك الأم الشابة مارست على الطفلة ـ بعلم زوجها ـ ألوانا من الضرب والكي بالنار، اعتقادا منها بأن الجسد تلبس بالجن. ونتيجة لذلك.. لفظت الطفلة أنفاسها الأخيرة.

رغم إحساسي بالفزع.. شعرت بنوع من الرثاء لتلك الأم، فهي حتما لم تبتكر تلك الأساليب الجهنمية لطرد العفاريت المزعومة، وإنما نُقلت إليها الفكرة بطريقة أو بأخرى. ومن هنا، تضاعف فزعي حين تذكرت أن العفاريت أصبحت متداولة في الإعلام بشكل متكرر.. أي أن ضحايا هذا النوع من الفكر قابلون للزيادة. وليس أدل على هذا مِنْ أن سيدة عربية نشرت كتابا عن تجاربها مع عفريت كان يأتيها في المنام ليطارحها الغرام، ويكتب لها شعرا. وادَّعت بأنها رفضت خاطبا، فعزمت أم الخاطب علي عقابها بمعونة ساحر عليم وظف الجن ليقضي على فرصة الفتاة في الزواج بأي إنسيّ آخر.. إلى غير ذلك من ترهات وإفك مقيت. والأغرب من كل هذا.. هو أن تحل صاحبة الكتاب ضيفة على الشاشة الصغيرة في أكثر من برنامج.

يقول المثل «إنْ لم تستح؛ فافعلْ ما شئت».. فإن لم تستح تلك المرأة عن الإدلاء بأحاديث من هذا النوع، بغية الحصول على قرشين، أو ثلاثة، أو ألف، فلم لا يستحي المسؤولون؟

بما أن الواحد والواحد يساويان اثنين، لا ثلاثة، ولا أربعة، فإنك لن تقضي على فكرة سيئة إلى أن تطرح فكرة أفضل.

أتمنى أن تطرح فكرة العفاريت ومن يسخرونهم لأغراض شتى على بساط التحدي. أدعو المشعوذين وزبائنهم إلى الامتحان على الملأ، فإنْ فشلوا على مسمع ومرأى الملايين؛ تراجع هذا النوع من التخلف الفكري المصحوب بتراجع الإيمان بأن الله وحده يقول للشيء كن؛ فيكون. وأزيد على ذلك أن تكون عقوبة الفاعل الذي يمارس الشعوذة، وعقوبة المفعول به الذي يلجأ إليه ويدفع له مالا، عقوبة رادعة؛ فيتعظ من تسول له نفس مريضة أن يوظف الخوف والجهل لخدمة أغراض مادية.

وإلى ذلك الحين.. سوف يعيش تجار الوهم ويتربحون، من دون أن يردعهم فقيه، أو مشرع، أو إعلامي.