لا تحكم على الإنسان من ملامحه

TT

أكره ما أكره أن أكون ناصحا للآخرين، أو معلما لهم، لسبب بسيط، إذ إنني لو كنت ناصحا لنصحت نفسي أولا، ولو كنت معلما لعلمتها كيف تسير على الصراط المستقيم، بدلا من هذا الطريق (المبطنج) الذي أسير عليه وأنا أعرج.

ولكن هذا لا يمنع من أن أطرح عليكم بين الحين والآخر تجارب الآخرين.

وإليكم بدون (تزويق) جزءا من المحاضرة التي ألقاها عميد كلية الآداب بجامعة (تشانغ هينغ) في تايوان:

في صغري كنت أدرس ليلا وأعمل نهارا، أي أنني حرثت وغرست وحملت روث الحيوانات لإخصاب الأرض وحصدت المحاصيل.

كنت أركع في حقول الرز والوحل يغمر فخذي ولا شيء يحميني سوى القبعة والقميص والسروال القصير، وكان الوحل ينتثر على أنحاء جسدي رطبا دبقا ووسخا، وعندما يدخل عيني ويقع على شفتي كنت أقف وأبحث عن إبريق الشاي المليء بالماء النقي وأحاول غسله، فلا أستطيع التخلص منه إلا بعد صراع طويل.

كانت الشمس تلسع ظهري المقوس فأشعر كأنني قالب حلوى ساخن التصق بوعاء معدني، وكانت المياه المتبخرة من حقول الرز تهب على وجهي ومنخاري في ساعات العمل التي تبدأ من التاسعة صباحا حتى الخامسة عصرا، حيث تختفي كل نسمة هواء، فيسيل العرق كالجدول على جسدي، فأشعر كأن القمل يزحف علي، وعندما تقع نقطة عرق في عيني كانت تثير الدموع، لكنني لم أبك، إذ كنت أعلم أن البكاء سيطلق دموع الأسى على عائلتي الفقيرة، ولمنع العرق من الجريان داخل عيني كنت أبقي وجهي منخفضا ما أمكن.

وأحيانا كانت تظهر على جلدي بقع حمراء وتنزف ركبتاي، فعيدان القصب تجرح والحشرات والديدان في الماء تلسع، كما أن العلق الصغير يمتص الدم ويسبب التهابا.

وما أكثر ما تساءلت: لماذا يكون في هذا العالم أناس يجهلون معنى الكدح، وآخرون مثلي يكدحون منذ نعومة أظافرهم موسما بعد موسم وسنة بعد سنة؟!، لماذا يجلس بعضهم قرب المراوح وفي الغرف المكيفة، وأنا ألهث وأغرق بالوحل وأعرق تحت الشمس الحارقة؟!

وما أكثر ما حسدت الثور والحصان عندما أشاهدهما يقفان شامخين عندما يخدمان الإنسان.

وفي يوم من الأيام كان هو مفترق طريق بالنسبة لحياتي، حيث انتابتني الشفقة فجأة وتولاني احترام كبير لملايين المزارعين الفقراء الكادحين، وبدأ محور اهتمامي يتجاوز نفسي وعائلتي، فصممت على مضاعفة جهدي بالدراسة وكذلك بالعمل دون يأس وتذمر.

وتخرجت من المدرسة الثانوية بتفوق مما أهلني أن أحصل على منحة دراسية في الولايات المتحدة، مرتفعا فوق المصاعب الشخصية.

لقد علمني الزحف في الوحل: أن أعتبر النزف والعرق جزأين من حياتي، وألا أتردد خائفا أمام المصاعب والحواجز، وأهم من ذلك كله أنني تعلمت معنى القول: (من زرع حصد).

ولا أنسى بريق عين أمي الصامدة الصابرة وهي تقول لي: احكم على الرجل من حقله لا من ملامحه.

[email protected]