جد تحت شجرة التين

TT

قال لي مرة الرئيس أمين الحافظ، إنك تكتب كثيرا عن جدك، هل أحببته إلى هذه الدرجة؟ توفي جدي وأنا في التاسعة عشرة. وكان شقيقي منير في الرابعة عشرة. وعندما اقتسمنا إرث أبي المتواضع إثر وفاته بعد حوالي ربع قرن، قال لي منير المهاجر في كندا: خذ أنت كل شيء واترك لي الخربة التي كانت بيت جدي ذات يوم. اكتشفت أن ثمة حرقة في قلب منير لأنه لم يعرف جدي المدة التي عرفتها. وقد حاولت، بكل الوسائل، أن أجمع حجارة البيت القديم الذي تصدع وهُجر، لكي أبني منها ولو غرفة واحدة في بيتي، فلم أستطع. فبيوت القرية في الماضي كانت ملاصقة لبعضها البعض، على الطريقة الأندلسية، وكان قلب القرية يسمى «الحوش»، والحوش كان مبنيا من حجارة سوداء جميلة، نفدت الآن في لبنان وتستورد من سورية.

وفي أي حال، قال لي المهندسون إن نقل حجارة الخربة سوف يؤثر على بيوت جيراننا من الجانبين وأنت طبعا لا تريد ذلك. وبعد سنوات من البحث قررنا أخيرا أن ننقل من الحجارة ما يمكن نقله، دون التعدي على أحد. ولا ندري ماذا نستطيع أن نبني بما بقي. ربما جانب من غرفة. ربما مصطبة مثل مصطبة البيت القديم. وربما بركة صغيرة تذكرنا بذلك المخلوق العظيم الذي كان يدعى تامر شاكر الغوار، المزارع البسيط الذي كانت له أخلاق الأمراء ولماحة الشعراء.

أتمنى أن تعنيكم هذه الكلمات الحميمة ولو قليلا، كي أبرر كتابة الزاوية، مرة أخرى، عن الرجل الذي كان بالنسبة إلى منير وإليَّ، ظل الأم المفقودة والأب البعيد. لم يجد خوسيه ساراماغو ما يتحدث عنه في خطاب قبول «نوبل»، سوى جده، أو جديه، للأب والأم: «لا شيء مما ذكرته يبدو مهما لأحد سواي؟ ما هي شجرة النسب الأخرى وأي شجرة نسب أفضل أستند إليها في الحياة». يقول ساراماغو: لم أدرِ يوما إن كان جدي يصمت حين يراني قد غفوت، أم أنه كان يكمل حديثه، لكي لا يترك الأسئلة التي كنت أطرحها دوما بنصف إجابة: وماذا حصل بعد ذلك؟ وفي ذلك العمر، ما من حاجة إلى القول، إنني كنت أعد جدي سيد المعرفة في العالم. وبعد سنوات، وأنا أكتب للمرة الأولى عن جدي وجدتي، أدركت أنني كنت أحول أشخاصا عاديين إلى شخصيات أدبية من أجل ألا أنساهم. سوف أسر لك شيئا يا سنيور خوسيه: برغم القارات، كان الشبه كبيرا بين جدك وبين تامر شاكر.