فرصة تاريخية.. لكي تكسب إيران اللعبة بامتياز!

TT

أظهرت الإدارتان الجديدتان، الأميركية والإسرائيلية، مواقف متفقة منطقياً من حيث المبدأ، ومختلفة من ناحية التوقيت. ففيما ربطت الإدارة الأميركية اتخاذ خطوات جدية حيال الملف النووي الإيراني، بالتقدم في المسار الفلسطيني الإسرائيلي، ربطت إسرائيل التقدم مع الفلسطينيين بتقدم مسبق في التصدي للبرامج النووية الإيرانية. ويبدو الطرفان في حاجة للوصول إلى طبخة مشتركة، تضعُ المواد كلها في وعاء واحد.

الأميركيون يعتقدون، على ما يظهر، أن الدعم العربي لأي فعل جدي لوقف الهوس الرسمي الإيراني، مرهون بمدى التقدم على جبهة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهذا يعطي دليلين مهمين: الأول، الخروج بانطباعات خاطئة عن حقيقة الموقف العربي المتحفظ في الحديث المباشر عن قضيتين حساستين، لأسباب تاريخية ونفسية وشعبية. والثاني، الانسياق وراء معلومات متفائلة عن حاجة إيران إلى مزيد من الوقت لبلوغ غايتها النووية. وكلاهما يصبان في مصلحة إيران (فنيا)؛ لأنها ستكسب المزيد من الوقت، وهو صلب المطلوب. إسرائيليا، يمكن تفهم دواعي القلق، حتى لو بولغ فيه، إلا أن غياب عامل الثقة بين الفلسطينيين وإسرائيل يضع علامات شك واستفهام كثيرة من قبل العرب، وتزداد الحال تعقيدا إذا ما لوحظ غياب القول الواضح للفلسطينيين عن أسبقيات الخطر التي تهدد الأمن القومي العربي، وترجيح الخطر القادم من جهة الشرق. لقد ألقى ليبرمان الكرة في الملعب الإيراني، وإذا كانت القيادة الإيرانية جادة في توجهها المؤيد للفلسطينيين، عليها تقديم برهان سريع يقيم الحجة على القيادة الإسرائيلية، في إعلان وقف تخصيب اليورانيوم لمدة ستة أشهر مثلا، لإتاحة الفرصة لحصول الفلسطينيين على عنصر دعم عربي ودولي، وتجربة النيات الأميركية والغربية نوويا. فموقف كهذا سيسجل لها تاريخيا، ويحول شعبيتها في العالمين العربي والإسلامي من موقع دعاية الأقلام الموالية، إلى ساحة جماهيرية مفتوحة لا سابق لها. كما أنها ستغير الموقف الدولي تجاهها، وتعزز دور الإدارة الأميركية الجديدة، التي تبنت نهج الحوار من دون شروط مسبقة.

وفي الوقت نفسه، على إسرائيل أن تبدأ حراكا تفاوضيا جديا مع الجانب الفلسطيني، حيث لا يجوز إبقاء الأبواب مغلقة، وفقا لخطط مقررة سريا، أو تأسيسا على بعض مواقف حركة حماس. وقد يكون الربط بين الملفين النووي الإيراني والفلسطيني، خيارا من خيارات المناورة الإستراتيجية، أو لتحفيز فك ارتباط المنظمات الفلسطينية بالنظام الإيراني، وكذلك بحزب الله الذي فقد صفة المقاومة بعد حرب 2006، خصوصا في حال الرفض الإيراني. أو أن يجري تجاهل الجهة الرافضة فلسطينيا، والسير مع الطرف القابل بحوار معقول وفق القرارات الدولية. وبغياب الربط بين الملفين الفلسطيني والإيراني، والملف السوري، يفترض أن تكون هناك أسبقية عالية لاستئناف المفاوضات السورية الإسرائيلية، لأن ملفها أكثر وضوحا، وربما من دون تعقيدات مبررة.

من حق أميركا مطالبة إسرائيل بعدم مهاجمة المواقع النووية الإيرانية، لأنها ربما تتصور قدرة الرد الإيراني أكثر مما ينبغي، ولأن لها حسابات إستراتيجية لا تقبل أن تُجر إلى ما يعاكسها. لكن ليس من حقها أن تفرض على الآخرين التسليم بإيران نووية، لأنها في النتيجة ليست على رأس الدول المستهدفة بالقدرة النووية الإيرانية، وما يترتب عليها من ابتزاز سياسي واقتصادي وأمني. وليس قدر الآخرين القبول بتهديدات خطيرة تغير المعادلات، بناء على تقديرات وحسابات وهواجس أميركية. وربما يظهر أصحاب نظريات المؤامرة بتوقعات يراد بها وضع المنطقة في دوامة صراعات لا حصر لها.

وعندما يقال إن المبادرة الإيرانية المفترضة بوقف التخصيب، المبنية على رغبة توفير معطيات إيجابية لمصلحة فلسطين، ستكون كسبا مميزا لإيران، لا بد من تذكرة القيادات الإيرانية، وفي المقدمة منهم المرشد الأعلى والشيخ رفسنجاني، ببعض دروس التاريخ من عمليات الفاو، بوصفهما كانا لاعبين محوريين طيلة سنوات الحرب الثماني. فقد ركب القيادة العليا الإيرانية الغرور بعد احتلال الفاو عام 1986، فتمادت برفض وقف الحرب، ظنا منها أن سيطرتها على المدينة ستمهد لها المسالك، للتمدد غربا لقطع طريق البصرة ـ الكويت، وتهديد الأخيرة، والتوجه شمالا لاحتلال البصرة من الجنوب والغرب، وهما اتجاهان لم يكن الدفاع عنهما رصينا. وظنوا أن العراق واقع في قبضتهم لا محالة. ومثل هذه التصورات خلقت قلقا شديدا لدى المخابرات الأميركية أيضا، التي قوبلت بثقة مطلقة لدى خبراء الاستخبارات العراقية عن قدرة العراق على حسم الحرب لصالحه.

وبلقطة استخبارية سريعة، ومخادعة بارعة، وقرار عراقي حازم، غير العراقيون اللعبة بشن عملية خاطفة لتحرير الفاو، فكانت النتائج أكبر من كل التوقعات. لأنها لم تؤدِ إلى تحرير الفاو خلال يومين فحسب، بل إلى فقدان القيادة العليا الإيرانية وقواتها التوازن الاستراتيجي والعملياتي معا، إلى حد ليس سهلا تصديقه، وتلاحقت الانهيارات بشكل مذهل. فقبلت إيران بوقف الحرب، وفق القول المأثور للخميني بتجرع كأس السم.

وما أريد أن أستنتجه يتعلق بالمسؤولين الإيرانيين، ليستفيدوا من دروس الفاو، وكيف انقلب الموقف على عقب بطرفة عين، بعد إن كانوا يُمنون أنفسهم باحتلال العراق، وألا يأخذهم الغرور بما يعتقدون من تعاظم قدراتهم، وتراجع الدور الأميركي، وضعف القدرات الإسرائيلية، وعجز العرب. فمثل هذه التقديرات (قد) تقودهم إلى مفاجأة كبرى تودي بنظامهم. وربما أبعد من ذلك بكثير. فعناد اليوم يشابه غرور ما بعد احتلال الفاو. وإذا كانت قدراتهم الحالية أكبر مما كانت عليه عام 1988، فإنها مقارنة تصلح مع دولة ثالثة محدودة الموارد، وليس مع الغرب والقدرات التقنية لإسرائيل. إنها فرصة تاريخية لإيران للخروج من المأزق بوجه مُصان، تجعلها لاعبا رئيسيا ضمن منظومة تعاون إقليمي بناء، وتساعدها على المشاركة في إدارة العالم، كواحدة من الدول الممثلة في الأمم المتحدة، وليس وفق حُلم الرئيس نجاد المستوحى من فكر المرشد، فهل يغتنمونها؟

[email protected]