البعض منا يقتلع الجذور في عالم يتمسك بها!

TT

أول ما يفاجئك في أسفارك اليوم هو إدبار العالم عما كانوا يتباهون به، منذ بضع سنوات فقط، عما كانوا يحرصون على إظهاره كأحد أوجه الحداثة، كي لا يساورك الشك بأنهم جزء من العولمة التي تتخذ مظاهر عدة في اللغة والثقافة والاقتصاد وحتى السياسة. من المدهش أن يبادرك كل من تراه اليوم في اجتماع رسمي ليؤكد أولا على استخدام لغته الأم من خلال المترجمين ولا يظهر حرصا أبدا على أن يتكلم بالإنكليزية أو الفرنسية، بل لا يخلو استخدامه للغة الأم من الشعور بالكبرياء. إذ يبدأ بعبارة «إنني أفضل استخدام لغة الأم»، وليس اللغة الأم، لأن التعبير الأول يحمل دلالة الأمومة للوطن والأرض والآباء والأجداد، بينما التعبير الثاني يحمل دلالة التمسك باللغة التي تعلمناها أولا في طفولتنا. وحتى قائمة الطعام الرسمية تقدم بلغة الأم دون ترجمة، الأمر الذي لم يكن مألوفا منذ بضع سنوات. والفخر بلغة الأم يمتد للاحتفاظ بكل ما هو تراثي، ووطني، وعريق وضمان استمراره، وتوريثه للأجيال الحالية والقادمة في أجمل صوره سواء أكان هذا التراث مدينة قديمة أو صناعات تقليدية أو حتى طريقة تناول طعام محدد أو طريقة عيش كما ألفها الأجداد والآباء، أما الحداثة فلا مانع أن يؤخذ منها ما يعزر الشعور بالهوية والانتماء وليس ما يحل محل الهوية أو يضرب جذور الانتماء في الأعماق، وبشكل يمكن للبلدان أن تحافظ على خصوصياتها وللشعوب أن تفاخر بهويتها المتميزة. ولا أستطيع وأنا أراقب هذا الالتزام القوي للشعوب الأخرى بملامح هويتها إلا وأن أفكر بفعل تملؤه الحسرة لما يحدث لدينا في عالمنا العربي الذي ما زال مقبلا على العولمة بنهم شديد دون تفكير بعواقب هذا الإقبال على شخصيته الوطنية وخصوصية أجياله المستقبلية. حين سألت في عاصمة غربية ما إذا كانت هناك مدارس خاصة تدرس باللغات الأجنبية وخاصة الإنكليزية دون التركيز على لغة الأم، قيل لي نعم مدرسة أو اثنتان لأبناء الدبلوماسيين ورجال الأعمال والمستثمرين الأجانب وما عدا ذلك فمدارس البلد تدرس كل شيء بلغة الأم.

ومقابل ذلك فنحن نجد بلدانا عربية بكاملها، وجامعات عربية لم تعد تدرس بلغة الأم بل باللغة الأجنبية: الإنكليزية أو الفرنسية حصرا، دون دراسة عواقب هذا الأمر على أجيال المستقبل الذين يجب أن يكونوا متجذرين بلغتهم وآدابهم وحضارتهم وثقافتهم وقادرين على استيعاب العلوم والفنون بلغتهم وعلى التفكير بلغتهم الأم كي نضمن أن يكون لهم موقع في هذا العالم عبر تعزيز الانتماء في المستقبل. ومهما درسوا من لغة إنكليزية أو فرنسية فهم لن يكونوا متجذرين بثقافة الآخر ولن يكونوا مقبولين من الآخر، ولذلك سوف يخسرون الجذر والفرع ويتحولوا إلى مخلوقات هجينة ضائعة بين الحضارات، لا تعرف إلى أي عالم تنتمي أو على أي أرض صلبة يمكن أن تقف.

وحين سألت عن مغزى هذه الموجة الجديدة من استخدام لغة الأم مثلا في أوروبا الموحدة قيل لي إن المواضيع الدقيقة والهامة يجب أن تبحث بلغة الأم، أما لغة العولمة والتي هي الإنكليزية اليوم فيمكن استخدامها للمجاملات العابرة.

لقد فشلت معظم الدول العربية أن تحدد هذا التمييز الحقيقي بين لغة الأم والعولمة، كما فشلت أيضا أن تحدد العلاقة بين الأصالة والحداثة فنرى مدنا عربية قديمة تهدم عن بكرة أبيها كي تقوم على أنقاضها مدينة لا علاقة لها بالبيئة العربية أو المناخ الصحراوي أو عادات الناس أو ثقافتهم الإسلامية أو تطلعاتهم المستقبلية. وهذه كلها تندرج ضمن الافتقار فعليا إلى الاستقلال الحقيقي للإرادة، لأن الاستقلال الحقيقي يعني خلق مرجعية قومية مستقلة تستند إلى الهوية الوطنية والمصلحة الوطنية أولا وقبل كل شيء وتتفاعل مع الآخر فقط بما يعزز الهوية الوطنية والمصالح الوطنية والانتماء الوطني للأمة والدين والقيم السماوية السامية.

وحتى في الاقتصاد فقد هبت رياح الأسهم والبنك الدولي والآي إم إف على بلداننا التي هي بالأصل بلدان زراعية وتجارية وصاحبة حرف يدوية تقليدية، ومن الصعب أن نراها تنافس في المجالات المستحدثة عليها. وبدلا من تطوير وتحديث منتجاتنا وحرفنا، شهدت البلدان العربية بمجملها إهمالا للزراعة والصناعات والتقاليد التجارية المتوارثة والتي كان يمكن تطويرها لننفرد بها في العالم، كما انفردت بلدان بسلعة أو بأخرى، وبدأت دول عربية مختلفة تتسابق لاستقدام صناعات لن نبرز بها على حساب نشاطات أخرى ننفرد بها بين الأمم وكان يمكن أن تشكل قيمة مادية بل وثقافية لنا إذا ما تمكنا من إنعاشها وتحديثها والترويج لها على المستوى العالمي.

وبهذا أرى السياسات الرسمية السائدة في العالم العربي منذ النصف الثاني من القرن العشرين تحيل عراقة هذا العالم الذي يكتنز الخصوصيات المتميزة إلى أرض خاوية تدخلها موجات متضاربة من الحداثة المستغربة المستقدمة بلا نهج محدد والتي أدت إلى القضاء على زراعتنا، وتهدد بعنف ضرب قيم ثقافتنا، وبتحطيم ملامح هويتنا الوطنية، وضرب لغتنا العربية في عقر دارها، واستبدالها بلغات أخرى ميتة منذ قرون أو بلهجات محلية لتعزيز التفتت والفتنة وتوجيه ضربة قاصمة للغة القرآن الكريم التي تجمع بين أبناء الضاد وتشكل عامل وحدة وتفاهم وتواصل وتناغم بينهم. بالمقابل فقد تركت آليات العمل على ما هي عليه من بطء وتخلف ولم يستقدم أحد الآليات الإدارية الممتازة التي توصل إليها الغرب ليبني وحدة اقتصادية على سبيل المثال والتي تحفظ خصوصيته ولغته وتاريخه وحضارته بينما تصهر الجميع سوق واحدة، وسياسات متناسقة ضمن سياق حداثي يحقق العلم والتقدم والتواصل ويرفع من مستوى حياة ومكانة الشعوب دون أن يقتلع جذورها من الأعماق.

ويبدو هذا القصور العربي الرسمي واضحا في العجز الشامل عن معالجة معظم قضايانا الأساسية الداخلية منها والخارجية بحيث لا نشكل مرجعية خاصة بنا تعتمد على رؤية واضحة ومحددة بهدف التوصل إلى غايات نعرف سلفا قيمتها وأهميتها وانعكاساتها الإيجابية على أبناء المستقبل.

وعلى سبيل المثال لا الحصر يحيي أبناء الشعب الفلسطيني هذه الأيام، وحدهم، الذكرى الواحدة والستين للنكبة التي حلت بالأمة حين بدأت عصابات الإرهاب الصهيوني بارتكاب المجازر الدموية لإبادتهم وتهجيرهم من مدنهم وقراهم وهدم بيوتهم دون أن تكون هناك آنذاك ذريعة إطلاق صواريخ أو تهريب أسلحة عبر الأنفاق. لقد تعرضوا آنذاك، ومنذ ذاك، واليوم لجرائم إبادة وتهجير تقشعر لها الأبدان على أيدي إرهابيي عصابة «الهاغانا» الصهيونية التي تحول قتلتها إلى قادة إسرائيل الذين يتسابق البعض لأخذ صور المصافحة معهم. تملق البعض لقادة العدو لن يدخلهم إلى العولمة، فهؤلاء لا يزالون يمارسون العقاب الجماعي في غزة اليوم، ولا يزالون يحتفظون بسلاحهم النووي وبعقلية إجرامية متمثلة بالقتل والتهجير وبالعنصرية المكشوفة لأن هدفهم هو إبادة الشعب الفلسطيني وسرقة أرضه وبلاده.

كي يكون العرب فاعلين اليوم على الساحة الدولية علينا أن نعلم علم اليقين أن العالم اليوم دخل في مرحلة ما بعد العولمة وأن الشعوب تعود لتكتشف جذورها وهويتها وتؤكد عليهما في اللغة والتاريخ والسياسة والتعليم والاقتصاد، وأننا ما لم نفعل ذلك وبالسرعة القصوى سنبدد بعد عقدين من الآن تراثا غنيا عمره آلاف السنين، ونستبدله بعطالة غامضة المعالم، وسنظل هائمين على وجوهنا دون ذاكرة أو لغة أو شخصية تفرض وجودها وتفرض الاحترام لنفسها. إن القصور في إجبار العالم على الاعتراف بحقوقنا والوقوف إلى جانب قضايانا هو قصور نابع من تقصير آخر متعدد الجوانب والمضامين ينعكس في النتيجة على الأداء الفكري والعلمي والثقافي والاقتصادي والسياسي. والمطلوب هو أن نضع العولمة في إطارها المحدود ونعود لنسقي الجذور بالإبداع الحديث، وتدعيم الهوية بالأصالة، ونبني مجدا حديثا يحاكي الأمجاد القديمة حين ركز الأجداد على تطوير لغتهم وفلسفتهم وفكرهم وبناء علومهم ونشرها في العالم فأصبحوا مصدر إشعاع للعالم برمته.

www.bouthainashaaban.com