حافظوا على تركيز محاربي الأوبئة

TT

حملت الصفحة الأولى لصحيفتي الصباحية صورة لضباط شرطة مكسيكيين، يرتدون الزي الرسمي ويحملون معدات في وضع الاستعداد، وغطت وجوههم أقنعة، وبدوا متأهبين لحماية مواطنيهم من إنفلونزا الخنازير.

عن نفسي، أقطن في وارسو، وهي بعيدة للغاية عن مكسيكو سيتي، لكن حتى لو كنت أعيش في باريس، كانت الصحف الصباحية ستحمل صورا مشابهة، وكذلك الحال لو كنت أقطن في سيدني أو كوالالمبور.

وفي الواقع، حال وجودي بأي مكان في العالم، كنت سأعاين موجة الهلع المرتبطة بإنفلونزا الخنازير. كما كنت سأعلم بشأن الإجراءات التي تتخذها منظمة الصحة العالمية حيال الأمر. والمعروف أن المنظمة، التي تتخذ من جنيف مقرا لها، هي المؤسسة التي نلجأ إليها جميعا في الأزمات، كتلك التي نمر بها الآن، وهو أمر صائب تماما بالنظر إلى خبرتها الممتدة لـ60 عاما، وإنجازاتها الملموسة ـ مثل قيادتها حملة ناجحة للقضاء على الجدري في السبعينيات. ولذا، ربما تكون منظمة الصحة العالمية المنظمة الدولية الوحيدة التي لا يمكننا العيش بدونها، فعندما تتفشى أوبئة معدية بسرعة عبر الحدود، من المتوقع أن تتولى منظمة الصحة العالمية تنسيق الاستجابة العلمية لمسؤولي الهيئات الوطنية المعنية بالصحة العامة، بمختلف الدول من فرنسا إلى ماليزيا، إلى جانب تنظيم حملة إعلامية عالمية اللازمة لشرح طبيعة الوباء. وليس بمقدور أي حكومة وطنية الاضطلاع بمثل هذا الدور.

ولحسن حظنا، تعتبر مديرة منظمة الصحة العالمية، مارغريت تشان، أحد المسؤولين المتمرسين بمجال الصحة العامة، وسبق لها تولي مسؤولية احتواء وباء سارس عام 2003 في هونغ كونغ. ولكن لسوء الحظ بالنسبة لنا، فإن وجود تشان على رأس المنظمة في هذه اللحظة الحيوية يعد ضربة حظ نادرة الحدوث.

وبطبيعة الحال، لا تمثل منظمة الصحة العالمية كيانا قائما بذاته، وإنما هي جزء من منظمة الأمم المتحدة. وعليه، فهي تعاني من الكثير من المشكلات ذاتها التي تعاني منها مختلف الوكالات الأخرى التابعة للمنظمة الأم. وبذلك نجد أن منظمة الصحة العالمية لا تخضع للمساءلة أمام ناخبين، ونادرا ما تتعرض لتفحص دقيق من قبل وسائل الإعلام. وعلاوة على ذلك، يجري اختيار قياداتها من خلال قواعد تفتقر إلى الشفافية تتحكم في التعيينات بالمناصب الكبرى داخل الأمم المتحدة. (على سبيل المثال، إذا تقلد عدد كبير من الأفارقة مناصب كبرى، فإن المدير العام ينبغي أن يكون آسيويا، وهكذا.) وعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية تولي اهتمامها الأكبر معظم الوقت إلى قضايا مثل الاستعداد لأوبئة الإنفلونزا، فإن بعض أولوياتها الأخرى تعكس الأجندات السياسية لأعضائها. وعلى سبيل المثال، يجري تخصيص نسبة كبيرة من ميزانية المنظمة كل عام إلى معالجة «العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تحدد الاحتمالات الصحية للمواطنين»، مثل الفقر والتعليم والتغييرات المناخية ـ وجميعها قضايا جديرة بالاهتمام، لكنها تبدو خارج نطاق منظمة ينبغي أن يكون شغلها الشاغل التصدي للأوبئة المعدية.

وعلى ما يبدو، يزداد الأمر سوءا بمرور الوقت، فمثلما الحال مع الوكالات الأخرى التابعة للأمم المتحدة، يهدر المسؤولون البيروقراطيون بمنظمة الصحة العالمية وقتا طويلا دون حاجة في صياغة وثائق حول مفاهيم تحيط بها شكوك قانونية، مثل «حق التمتع بالصحة»، بينما يعكف آخرون على وضع خطط لخلق كيان بيروقراطي دولي يتولى تنظيم كافة الأبحاث المرتبطة بالعقاقير والتنمية. ويبقى اهتمام فريق ثالث مشتتا باتجاه قضايا مثل البدانة وضمان السلامة عند ركوب السيارات. وعلى سبيل المثال، تتحدث الخطة الإستراتيجية لمنظمة الصحة العالمية للفترة بين 2008 و2013 عن «برامج لتعزيز التكافؤ الصحي وتكامل الاتجاهات التي تقوم على الاهتمام بالفقراء، والاستجابة على أساس النوع وحماية حقوق الإنسان»، بغض النظر عما يتضمنه ذلك. وعلاوة على ذلك، لم تنج المنظمة من الجوانب الأخرى التي يتسم بها المشهد السياسي داخل الأمم المتحدة، فعلى سبيل المثال، تقابل محاولات تايوان المتكررة للانضمام إلى منظمة الصحة العالمية باستخدام الصين لحق النقض (الفيتو)، وعادة ما يرفض مسؤولو الأمم المتحدة السماح لصحافيين تايوانيين تغطية المناسبات المرتبطة بالمنظمة (معللين ذلك بإتباعهم توجهات تقوم على احترام حقوق الإنسان). لكن عندما يندلع الوباء القادم في تايبيه، سنندم على كل ذلك.

ولا أرمي من وراء ذلك توجيه انتقادات حادة لمنظمة الصحة العالمية، وإنما تتمثل وجهة نظري في أن هذه المنظمة يمكن أن تفقد أهميتها بسهولة في ظل الثقافة المؤسساتية الراهنة داخل الأمم المتحدة في جنيف. وللتأكد من ذلك، علينا النظر إلى حجم المال والوقت الذي تهدره المنظمة، على الرغم مما تتميز به مديرتها من كفاءة، ولك أن تتخيل حجم المال والوقت الذي كان سيضيع لو لم تكن هذه السيدة على قدر كبير من الكفاءة ـ مثلما كان الحال مع بعض سلفها. وعلينا إمعان النظر في ضآلة الجهود المبذولة من أجل الإبقاء على اهتمام المنظمة منصبا على مهمة محددة ـ السيطرة على الأوبئة المعدية ـ التي لا يمكن لسواها الاضطلاع بها. في الوقت ذاته، لننظر إلى حجم الطاقة الدبلوماسية المهدرة على منظمات أقل أهمية بكثير. ويرد على ذهني في هذا الصدد المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية الذي نظمته الأمم المتحدة مؤخرا، الذي كانت أبرز معالمه استغلاله من قبل رئيس إيران، وهي دولة تضطهد المنشقين عنها دينيا علانية، في إطلاق خطبة مفعمة بالعداء للسامية.

في الواقع، إننا نتعامل مع المنظمات التابعة للأمم المتحدة ذات الأهمية الحيوية مثلما نتعامل مع مرافق المياه على المستوى المحلي، ذلك أننا لا نولي اهتماما معظم الوقت لمن يتولى إدارة هذه المرافق أو مدى كفاءة جهود الإدارية ـ لكن في حالات الطوارئ، ننتظر استجابة خارقة تفوق قدرات البشر. والآن، وبما أننا قد نكون على وشك مجابهة أزمة طارئة، ربما تكون هذه اللحظة المناسبة كي نذكر أنفسنا بأننا إذا كنا نرغب في توافر منظمة الصحة العالمية على استعداد حال احتياجنا إليها، يجب إذن أن تخضع المنظمة لمراقبة دائمة، وتتمتع بتمويل كامل. وعلى حكومات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التيقن من أن المنظمة تصب اهتمامها على مهمة واحدة رئيسية، فعلى كل الأحوال، تبقى منظمة الصحة العالمية الكيان الوحيد المؤهل لفرض رقابة دولية على تفشي وباء معد جديد. ودعونا نأمل وندعو ألا يكون اهتمام المنظمة قد تشتت هذه المرة باتجاه أمر آخر.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»