«فش إند شبس»

TT

تواصلا مع ما تكلمت فيه عن الكرم وعلاقته بالجوع والجوعيات، مررت قبل أيام بتجربة طريفة في هذا الصدد. كنت عائدا من شمال لندن إلى بيتنا في ومبلدون في الجنوب، سفرة تستغرق نحو ساعتين بالسيارة. لم أقطع نصفها بعد عندما حان موعد عشائي، وأنا من المتطبعين على الالتزام الإنجليزي بمواعيد الأكل، لا حبا بعاداتهم وإنما رفقا بمعدتي المقروحة. قررت التوقف عند أول مطعم أصادفه، وكانت المصادفة مطعما شعبيا مختصا بالأكلة العمالية «فش اند شبس» (سمك وبطاطا). دخلت وطلبت ذلك. ولكنني لاحظت لوحة تقول: «نأسف. لا نقبل البطاقات الائتمانية». وهي طريقتي المعتادة في الدفع. بادرت للاعتذار من صاحب المطعم وإلغاء الطلب. قلت له: «آسف ما عندي خمسة باوندات نقدا». هممت بالانصراف لولا أن استوقفني الرجل. «كم عندك من الفلوس؟» أخرجت كل ما في جيبي ووضعته على الطاولة. لم يتجاوز نحو ثلاثة باوندات أو أقل. وضعها الرجل في صندوقه دون أن يعدها.

«اجلس! حرام أتركك تخرج جائعا بسبب الفلوس. اجلس!».

أطعت وجلست وإذا به يأتيني بطبق فيه سمكة كود كبيرة وكمية كبيرة من الشبس. تبعها بطاسة مليئة بالسلطة أعدها خصيصا لي. فليس من المعتاد أكل «الفش اند شبس» مع سلطة. لم انته منها إلا وجاءني بطبق من الحلوى وأخيرا بكوب إنجليزي من الشاي. يظهر أنه كان يتلمس مرضاة ربه بالتصدق على هذا الجائع من مشردي لندن وفقرائها. أكلت وشربت هنيئا مريئا. خطر لي وأنا أشكره على معروفه وصدقته، أن اسأله عن هويته. معظم بائعي «الفش اند شبس» في لندن من الأجانب أو اللاجئين. وهكذا بدا الرجل بشنبه الكثيف وعينيه السوداوين وإنجليزيته المكسرة.

«أنا فلسطيني!»

ما إن قال ذلك حتى وضعت حقيبتي على الكرسي، وانطلقنا في حديث طويل بالعربية عما كان يجري في غزة، ومصيبتنا بكل هذه الانشقاقات والمنازعات في صفوف القيادات الفلسطينية.

«معلهش! بس انتو يا العراقيين مش أعقل من عندنا. إحنا اليهود والأميركان خربوا بلدنا. بس انتو خربتوا بلدكم بإيدكم!».

عدت إلى البيت لأجد زوجتي تستشيط غضبا على تأخري. وكان الروست بيف قد برد تماما على طاولة الطعام. ما هذا التأخر؟ لم تخابر و تقول؟ أي حسناء قد شغلتك وأخرتك؟

اعتذرت لها ورويت حكاية تلك الوقعة وتلك الواقعة من الكرم العربي الأصيل. قالت: «معلوم! شافك بهالسترة المبهدلة وبنطلونك المتهري وتصورك واحد من الشحاذين وتصدق عليك. يمكن في يوم من الأيام ، واحد من الجيران يشوفك بهالحالة ويخرج من البيت ويتصدق عليك ببنطلون جديد!».

www.kishtainiat.blogspot.com