ثقافة الردح تخدم العنصرية الصهيونية

TT

هل العرب عنصريون؟

أسأل نفسي هذا السؤال، كلما شاهدت في شوارع باريس مراهقة فرنسية معلّقة بذراع عربي أسمر أو أفريقي أسود. ماذا تفعل أنت في شارع عربي، لو أنك شاهدت فتي أفريقياً يرافق شابة عربية؟ ربما لم يكن الشرف الرفيع ليسلم إلا إذا أرقت على جوانبه الدم.

هذا لا يعني أن الفرنسيين أقل عنصرية. الفرنسيون جماعة «غلابة» في الشارع. الأب قد لا يستطيع منع ابنته. هي تملك حرية تامة. قد يكون الهيام بلون آخر مجرد نزوة طارئة. «موضة بناتية». كلهن يرغبن في تذوق الأسمر والشكولا.

عندما يكبرن سيتزوجن، على الأغلب، فرنسيا لا يسأل عن الماضي، ولا يريق دما لكي تسلم سمعةُ الشريف الرفيع. وحتى المغربي أو الجزائري عندما يكبر، لن يتزوج غالبا فتاة أفريقية.

لكن الأوروبيين عنصريون أكثر من العرب. هم عنصريون حيث تُوجِع العنصرية. الفرنسية تجد عملا لا يعثر عليه صديقها العربي أو الأفريقي، حتى ولو تخرجا معها في المدرسة أو الجامعة، حتى ولو كان العربي حليقا بلا لحية كثَّة منفرة.لا يجد عملا لمجرد كونه يحمل اسما عربيا، على الرغم من نداءات الرئيس ساركوزي المتكررة، مناشدا الشركات والمؤسسات تشغيل المؤهلين للعمل، من دون حائل عنصري، دينيا كان أو عرقيا.

لست أبرِّئ العرب. هم عنصريون أيضا. جُلْتُ يوما في أفريقيا الغربية. مازال اللبنانيون، ومعظمهم شيعة كان آباؤهم ناصريين متحمسين، يمسكون بتجارة الجملة والتجزئة. لكن نادرا ما يتزوجون أفريقية. إن فعل التاجر اللبناني، فهو لا يصحبها لزيارة الأهل في لبنان، كي لا يشاهده السيد حسن شيخ حزب الله.

شجاعة الأسود عنترة العبسي لم تشفع للسواد لدى المتنبي. كان شاعر العرب الأكبر عنصريا حتى العظم. لعلِّي أشفع للمتنبي عندما أزعم أن فاشيته العنصرية كانت مركزة ضد شخص واحد، ضد كافور الإخشيدي، وليست ضد القارة أفريقيا. عاش المتنبي القومي العربي متحسرا على سقوط السلطة من أيدي العرب، لصالح غلمانهم من أقوام أخرى. العرب لم يستخدموا العنصرية قط حيث توجع. استعان العرب بأممية الإسلام لاختراق العنصريات العرقية. هناك اليوم عشرات ألوف العراقيين السود. هم أحفاد ثورة الزطّ والزنج في الزمن العباسي. بل هناك اليوم شعب عربي أصيل في السودان، لم تمض على أسلمته وتعريبه سوى قرون قليلة، عبر هجرة قبائل عربية من مصر وجزيرة العرب. عبقرية العرب في التعريب تجلت في اندماجهم السلمي الكامل مع الأفارقة، من دون حرب أو إكراه. السودان نتاج الإيمان بأن الثقافة والبيئة، وليس اللون أو العنصر، هما أداة الانتماء المشترك لأمة عريقة.

من حيث الاندماج، العرب غير عنصريين. إسلامهم دين مضاد للعنصرية. كتم العرب انتماءهم القومي، لتسهل عليهم أسلمة غيرهم. دفعوا لقاء ذلك ثمنا باهظا. غابوا كأمة عن التاريخ أكثر من ألف سنة. حتى أدبهم لم يكن صريحا في التعبير عن الانتماء لهوية ووطن. وتسلح غيرهم بالدين للتناوب الاستعماري على حكمهم.

في الصراع العنصري بين الفرس والعرب، كانت المبالغة في الانتصار لآل بيت النبي العربي أداة قديمة للعنصرية الفارسية المتسترة بالانتماء الديني. أداة الاختراق الراهن هي المزايدة على العرب في قضيتهم الأولي، القضية الفلسطينية، أمام شارع عربي عفوي الإيمان، لكن ضعيف التعليم والوعي والثقافة، ومغسول الدماغ مسبقا، بجرعات من التلقين المتزمت والابتهالات والطقوس (الشعائر)، بحيث تجمدت قدرته على التحليل العقلاني، لما يقدمه إليه الخطاب الإيراني من سلع استهلاكية شديدة الإغراء.

خطاب الرئيس الإيراني نجاد يندرج في هذا السياق الاستهلاكي الموجه للشارعين العربي والإسلامي، وبالذات للشارع الإيراني. أعد نجاد لنفسه، بعد الخطاب، استقبالا شعبيا انتخابيا في طهران، متسلحا بنصره «الإلهي».

أود هنا أن أميز بين الرأي العام والشارع. الرأي العام أكثر وعيا ونضجا. النضالية الفلسطينية والعربية تجاوزت، منذ غياب أحمد الشقيري، المنطق المتخلف في معالجة الصراع مع إسرائيل والصهيونية. كان الشقيري يلقي باليهود إلى البحر، وهو منتفخ الأوداج على المنابر. ها هو شقيري آخر يستثير ويستفز عنصرية الغرب ضد العرب والإسلام، بلغة اهتياجية صارخة، وبمنطق دعائي ساذج تخلى عنه العرب، بمن فيهم الجهادية الإخوانية والحماسية.

ثقافة الردح السياسي الذي يمارسه نجاد، في هجمته الدونكيشوتية على اليهود وإسرائيل، خدمت وتخدم العنصرية الصهيونية السياسية والدينية. بيان المؤتمر جاء خاليا من الإشارة إلى العنصرية الصهيونية التي أدانها المؤتمر الأول قبل تسع سنوات. جدد نجاد ذكريات قضية المحرقة. أعاد ذكرياتها إلى الذهن الأوروبي، تماما كما تشتهي الدعاية الإسرائيلية. كان غياب أميركا وانسحاب أوروبا انتصارا آخر منحازا للعنصرية الصهيونية، في وقت لم تجف دماء 1300 فلسطيني في غزة. هل هناك بديل متزن ومعقول لثقافة الردح، ثقافة الارتجال المتخلف، والغوغائية السياسية، في معالجة قضية العنصرية. لو كان نجاد على مستوى أعلى في الثقافة والوعي السياسي، وفى فهمه لأسلوب التعامل مع العالم، لذهب إلى المؤتمر مسلحا بدراسة بحثية أكاديمية، مليئة بالشواهد والأدلة والصور، عن الممارسة العنصرية ضد العرب.

نحن اليوم في عصر حضارة التفاصيل. حتى خطاب رياض المالكي وزير خارجية عباس كان مجاريا لخطاب نجاد، في خلوه من التفاصيل. المرجعية الأكاديمية الفلسطينية ومراكز البحوث الفلسطينية، هي أيضا مقصرة في تقديم دراسات تفصيلية للممارسات العنصرية النظرية والميدانية والتربوية ضد العرب، وتوزيعها على الوفود، وإرسالها إلى ساسة وصحافة العالم.

المرجعية السياسية والحزبية لـ«عرب إسرائيل» تخطئ في الإلحاح على اعتراف دولة إسرائيل «بعربها» كأقلية قومية، بدلا من الإلحاح على مبادئ حقوق الإنسان في المساواة. ها هو نيتنياهو يتسلح هو الآخر بالشوفينية القومية، ليطالب العرب بالاعتراف بإسرائيل دوله قومية لليهود، بكل ما في ذلك من خطر مستقبلي على عرب الداخل والضفة وغزة.

أمم بان كيمون تتحمل أيضا مسؤولية عقد مؤتمر سياسي لمعالجة قضية العنصرية الدينية والعرقية. العنصرية ثقافة وبيئة. العنصرية قضية تربوية تنطوي عليها مناهج التعليم والكتب الدراسية في إسرائيل، لتخريج أجيال تظهر كل هذا الاستعلاء العنصري والمعادي للعرب، فيما تملأ إسرائيل العالم صخبا مطالبة بتعديل المناهج التربوية العربية المتزمتة. كان الأولى بمعالجة قضية العنصرية كمسألة اجتماعية وفكرية، علماء الاجتماع والتربية والتعليم والأكاديميين والمفكرين والمثقفين.

بدلا من ذلك، تدعو الأمم المتحدة ساسة محترفين وشعبويين لمعالجة قضية ثقافية اجتماعية، ساسة كنجاد تمتلكهم ضوضاء وصخب الإثارة والكسب السياسي. ساسة يعقِّدون المشكلة ولا يحلونها. يرافقهم دبلوماسيون من الدرجة الثانية والثالثة مستعدون للانسحاب، وغير مؤهلين للحوار، حتى وجوه وقامات الوفد الإيراني، كانت أقرب إلى وجوه رجال «السافاك» والمخابرات، ولا توحي بأنهم من رجال الدبلوماسية والثقافة الاجتماعية الرفيعة.

في ثقافة الردح والاستفزاز، كان نجاد سعيد الحظ. لم يُقابل في جنيف كما قوبل نده وخصمه بوش في بغداد. لكن صحيفة «صرماية» الإيرانية ـ لاحظ الاسم ـ لم تقصر في القيام بواجب التنديد اللفظي به،على الأقل.