أوهامنا التي نحب!

TT

كثيرة هي القصص والمواقف التي يعرفها عقلنا الجمعي ويتأثر بها، ثم يتبين عند التمحيص أنها قصص مزيفة أو كلمات منحولة، أو مضخمة، فعلت الأفاعيل بالناس، وهي ليست إلا من صنع الخيال الخصب.

كنت أشاهد الفيلم الوثائقي (أيام السيد عربي) الذي أنتجته قناة العربية، وهو فيلم من عدة أجزاء يتناول التاريخ المصري منذ حرب 1948، وقبل ذلك يمهد بمرور سريع على ثورة 1919 وقبلها «ثورة» أو تمرد أحمد عرابي. أثناء المشاهدة تحدث الضيوف كثيرا، وأغلبهم من معاصري حرب 1948 في فلسطين أو من المؤرخين المختصين، اللافت كان هو، ما يشبه الإجماع، على أن حكاية «الأسلحة الفاسدة» التي اتخذها أعداء النظام الملكي ذريعة مباشرة لإسقاط الملك، واتهامه بخيانة القضية، كانت قصة مفبركة وليس لها من الواقع نصيب، على الأقل نصيب يوازي الضجة التي رافقت حكاية الأسلحة الفاسدة، وقال أحد أبناء ثورة الضباط الأحرار وهو «رياض سامي» وكان مدير مكتب اللواء محمد نجيب، قال «يعلم الله أن حكاية الأسلحة الفاسدة غير صحيحة، وأنا نفسي جلت في الجبهة على مواقع الجنود، ولم أر طلقة فاسدة، وسألت أيضا الضباط والجنود فلم يخبرني أحد بشيء، ولكن حكاية الأسلحة الفاسدة أثارها الصحافي إحسان عبد القدوس في روزاليوسف وصنع منها قصة، من أجل هز عرش فاروق». وقصارى ما وصلت إليه تعليقات الضيوف، وجلهم من أعضاء حركة الضباط الأحرار، أو مؤرخون مختصون، أنه كانت هناك أزمة تسليح في الجيش المصري بسبب الحظر الدولي المفروض على دول الحرب في الشرق الأوسط حينها، لكن التشديد كان على مصر بالذات، فتكونت لجنة مشتريات حكومية للأسلحة وجالت العالم فباعها سماسرة السلاح من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وكانت أسلحة صالحة، ولكن الأزمة كانت في توفير الذخائر، المهم أنه لم يكن هناك إهمال أو تعمد في توريد سلاح فاسد، كما هو الأثر الذي بقي في النفوس عن قصة الأسلحة الفاسدة.

حديثنا هنا ليس عن حرب 48 أو لماذا سقط الملك فاروق أو حقيقة هذا الملك الذي يراه البعض فاسدا والبعض الآخر صالحا تعيس الحظ، الحديث هنا عن كيف تفعل بعض القصص المصنوعة في توجيه الرأي العام وكيف يتم توظيفها في اتجاهات معينة من أجل تشويه، أو تنزيه، طرف سياسي أو فكري ما، وهنا يفقد التحقيق التاريخي والعلمي قيمته، بل تفقد الحقيقة كلها قيمتها، وتصبح القيمة للأثر المرتجى من ذيوع هذه القصة أو المقولة، بصرف النظر عن حقيقة حصولها بالشكل المروي، بل يصبح طمس التحقيق الواقعي وتمحيص الراويات أمرا مزعجا وغير مرغوب، وإذا كشف زيف القصة لاحقا، تكون قيمة الكشف التاريخي غير مؤثرة في تغيير القناعات، لأن المشاعر والأفكار التي بنيت على هذه القصص أصبحت متحجرة وراسخة ولن يضرها حقيقة الكشف عن زيف القصة التي بنيت عليها هذه المشاعر والمواقف، كأن يكشف بحث علمي، وقد حصل ذلك، عن أسطورة الدور المنسوب لابن السوداء في أحداث الفتنة الكبرى في صدر الإسلام، أو حقيقة بخل الوالي كافور الإخشيدي، أو حقيقة الخطبة الفصيحة للقائد الأمازيغي طارق بن زياد: «البحر من أمامكم والعدو من ورائكم» وحرقه للسفن.. في كل هذه الأمثلة هناك، من الباحثين، من يؤيد الروايات الشائعة ويدافع عنها ويستدل لها بما يستطيع من نصوص ومصادر ومقارنات، وهناك من ينفي صحتها، وأيضا بذات الأدوات الاستدلالية، ولكن ليس المهم هنا التحقيق العلمي المجرد للوصول إلى الصورة الواضحة، قدر الإمكان، المهم هو ما الذي فعلته مثل هذه القصص الذائعة في الناس وكيف تم توظيفها وكيف شكلت وجدان الناس عن ماضيهم وشخصيات هذا الماضي ورموزه. تذكر لنا الكاتبة المصرية القديرة سناء البيسي في كتابها الممتع (سيرة الحبايب) عن شخصيات فاعلة في الذاكرة المصرية، تذكر لنا عن القائد أحمد عرابي، وعنونت فقرته الخاصة بـ«عرابي المفتري والمفترى عليه» ثم تحدثت عن «هوجة» عرابي، كما سماها بعض من لحق بها من الناس العاديين في مصر، أو «ثورة» عرابي كما استقر اسمها لدى كتبة التاريخ الواعين لمهامهم التعبوية أكثر من وظيفتهم العلمية المجردة، وتنبه البيسي كيف أن وصف فعل عرابي بالثورة يذكرها بصنيع الضباط الأحرار بالنظام الملكي في يوليو(تموز) 1952، حيث ظل الاسم المتداول لما قاموا به هو «الحركة المباركة» حتى جاء طه حسين وسماها، لأول مرة، «ثورة يوليو» واستمرت التسمية.

هوجة أو ثورة القائد العسكري أحمد عرابي (1881) على الخديو توفيق، الحدث الأبرز فيها والأكثر تأثيرا هو الخطبة الشهيرة المنسوبة له حينما وقف عرابي يوم 9 سبتمبر (أيلول) 1881 بحصانه أمام قصر عابدين، حيث الخديو واقف على الأرض يسأل عرابي: لماذا أتيتم إلى هنا؟ فيجيب عرابي بثبات: جئنا نعرض عليك طلبات الأمة والجيش العادلة، ويجيب الخديو بصلف: طلباتكم لا حق لكم فيها، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا! فينتفض عرابي ويقول جملته الشهيرة: لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، فو الله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم.

تقول سناء البيسي: «البحث في الأصول والجذور والمراجع والكتب ومنها مذكرات أحمد شفيق باشا وكتاب البحر الزاخر في علوم دولة الأوائل والأواخر لمحمود فهمي باشا الموجود منه نسخة واحدة قامت بطباعته المطبعة الأميرية 1312 هـ.. والخ، سوف نجد أنه حوار شط في الخيال، ولم يحدث أن قيل وقال، وأن مصدره المباشر (أي الحوار) مذكرات أحمد عرابي نفسه التي كتبها من الذاكرة في عهد الخديو عباس حلمي الثاني وانتهى منها يوم 26 يوليو (تموز) 1910 أي قبل وفاته في 22 سبتمبر (أيلول) 1911 (...) وهو الذي لم يكن يدون مذكراته اليومية قبل ذلك كما دونها أحمد شفيق باشا»(سناء البيسي، سيرة الحبايب، ص 118).

ولو مضينا أكثر في عالم القصص والراويات التي تؤثر في الخيال العام، لدرجة يصل فيها عمق التأثير أحيانا إلى تسخير طاقة الجماهير أو خلق طوائف أو سقوط وقيام دول وأنظمة، لو مضينا لوجدنا الكثير الكثير من هذه الأمثلة، عظم أو صغر شأن تأثيرها، وأحيانا تصنع أجهزة الدعاية في الدول قصصها الخاصة لأغراضها الموسمية الخاصة التي تتعلق غالبا بالجانب الأمني، مثلما صنع نظام البعث في العراق قصة السفاح الشهير «أبو طبر» أي صاحب «الساطور» الذي يقتل ضحاياه من العوائل البغدادية الثرية أو غير الموالية للبعث بطريقة بشعة، ولما استنفدت السلطات الأمنية البعثية غرضها من هذه الحملة أخرجت شخصا نكرة وأدلى باعترافات آلية عن ارتكابه لهذه الجرائم، حسبما هو معروف لدى كثير من المتابعين العراقيين.

بعض القصص مفعولها سريع الانتهاء مثل قصص أسلحة الدمار الشامل التي اتهم بها صدام حسين، وبعضها أطول عمرا مثل حقيقة «بسكويت» زوجة ملك فرنسا ماري أنطوانيت، أو حقيقة فسق وفساد وعمالة الملك فاروق الذي اتضح لاحقا مدى بعدها عن حقيقة الرجل، وبعض هذه القصص ما زال يقاوم للبقاء والتأثير مثل قصة الأسلحة الفاسدة، أو القصص التي رويت عن مدى تحجر وتخلف الإمام أحمد حميد الدين في اليمن وعدائه للعلم، وهي قصص راجت بعد سقوط الإمامة، كما روجت كتب التاريخ التي كتبت أيام العباسيين عن شره سليمان بن عبد الملك وزندقة الوليد بن يزيد..

الاشتباك بين التاريخ والسياسة والدين اشتباك عميق ومعقد، وهنا تأتي قيمة المؤرخ الباحث عن الحقيقة، دون أن يحول الرواية التاريخية إلى مجرد مفردة في أبجدية الدعاية السياسية أو الأيديولوجية لهذا الطرف أو ذاك. الفائدة المحصلة من تخليص التاريخ من ضغوط السياسة والأيديولوجيا فائدة عظيمة في سبيل إيجاد ثقافة عقلانية ناقدة تتميز بالاتساق وعدم التناقض، فنحن نحمل أحيانا روايات تاريخية متناقضة عن الحدث الواحد دون أن نشعر بوجود هذا التناقض وإن شعرنا حاولنا التلفيق أو الترقيع، حتى لا نفقد أثر الوهم الجميل حتى ولو نحرنا المنطق والعقل.

ترى، كم من وهم تاريخي، قريب أو بعيد، مازلنا نعيش على وقوده، ونحكم على الناس به، وهو ليس إلا «حديث خرافة يا أم عمرو»؟!.

[email protected]