عندما يغادر أوباما البيت الأبيض

TT

ماذا سيحدث إذا غادر الرئيس الأمريكي باراك أوباما البيت الأبيض بعد أربع سنوات أو حتى ثماني سنوات إذا جدد له، هل ستحل قضيتنا الفلسطينية؟ وهل سيتوقف الاستيطان؟ وهل سندخل القدس إن شاء الله سلما ونسترجع حقوقنا؟ وهل ستحل قضايانا الكبرى مع إسرائيل، ويتوقف الانحياز الأمريكي وننتصر على موضوع العنصرية ضدنا؟ وهل سنستطيع أن نستفيد من قدراتنا الاقتصادية وعلاقاتنا للتأثير في القرار الأمريكي فيما يخص حقوقنا الواضحة والجلية؟ وما هو الطريق إلى ذلك كله؟

ولاشك أن البداية التي يراها العقلاء هي أن نفهم حقيقة النظام الأمريكي، وأنه نظام ديمقراطي لا يحكمه فرد ولا حزب بمفرده، بل يحكمه القانون والمؤسسات الدستورية التي تؤثر في قراره، وأن نجاح أي فئة في كسب البيت الأبيض والحكومة الأمريكية لا يكمن في القدرة على التعامل مع الرئيس بمفرده، وإنما بتفهم النظام الأمريكي، والقدرة على الوصول إلى الإنسان الأمريكي والتعامل معه.

ولو نظرنا بعمق في هذا الموضوع، لوجدنا بكل أسف أن التأثير الصهيوني قد نما في أمريكا خلال العقود الماضية بصورة خطيرة، أدت إلى انفراده بالتأثير على القرار، وعزلة العرب وبعدهم عن الشعب الأمريكي، حتى لم يعد يعرف إلا القليل عن عالمنا وعن قضايانا وما ألم بنا من ظلم وقسوة، وذلك لجهلنا بأهمية هذا التأثير في الإنسان الأمريكي عندما يتخذ القرار، بل حتى إن بعضهم لا يدرك عظيم المصالح المشتركة بين شعوبنا والشعب الأمريكي.

ومن هنا فقد اختلت المعادلة، وانفردت القوة الصهيونية من خلال الإعلام المؤثر خاصة في التأثير على القرارات الأمريكية فيما يخصنا على الأقل، حتى صورتنا في غفلة منا بأننا أمة إرهاب، وأننا قوى تدمر العالم، ونحن في عجز تام عن الدفاع عن أنفسنا، أو حتى الإعلام عن قيمنا ومبادئنا، مع أن لنا قدرات، ولنا مصالح ولدينا استثمارات هائلة، ولكننا في غياب كامل عن العمل المخطط الجاد، وفي غفلة عن التأثير الإعلامي خاصة والسياسي عامة في اتخاذ القرار الأمريكي عندما يجهل الشعب كل شيء عنا، ولا يسمع منا إلا الضجيج والصراخ ولا يرى إلا تفجيرات تنسب لنا، وجرائم تلصق بنا وهنا كانت الخطورة عندما ألصقت بنا مجموعة التهم التي جعلت العالم يتصورنا كأمة ظالمة لإسرائيل، وحال هذا بيننا وبين حتى مجرد الدفاع عن أنفسنا.

ويأتي السؤال المهم وهو ما الذي يحدث إذا أزيلت هذه الحجب وظهرت الحقائق، وتبين للشعب الأمريكي أن كل هذه الادعاءات كاذبة وظالمة، بل وعلى حساب مصلحته كشعب أمريكي، فمصلحة هذا الشعب تنطلق من واقع أن أمريكا دولة عظمى ومؤثرة في العالم، وقد رمزت للحرية في تمثالها، ولكن ذلك اللوبي اليهودي شوش عليها وأخفى الحقائق عنها، وبالتالي ضيع على الشعب الأمريكي فرصة أن يحكم نفسه بنفسه، بدون مؤثر ولا مناورات كاذبة، أو مؤثرات تحرص على مصلحة إسرائيل قبل مصلحة أمريكا.

ودعونا ننظر الآن إلى يوم دخول أوباما إلى البيت الأبيض، وكيف كانت الناس تتفاءل بموقف متوازن من قضايا العالم المصيرية، وإصلاح ما تم من دمار وسفك للدماء، وتخريب للاقتصاد، وشعوب العالم وهي تستقبل الرئيس أوباما تتمنى أن يكون الرجل عادلا ومنصفا على الأقل، وألا يقع فريسة لاستشارات صهيونية ظالمة، ساهمت في العقود الماضية في صياغة السياسة الأمريكية، واستغلت نفوذها وقنواتها وأذرعتها الاستخبارية لتصور الأمور بصورة مخالفة، وحسب هواها، في وقت يجهل فيه الشعب الأمريكي حقيقة ما يتم من مؤامرة كبيرة على هذا الشعب الذي لو علم الفساد العظيم الذي تخطط له القوى الصهيونية وتنفذه لتحقيق مصالحها في غفلة عن عامة الناس، وتستغل الطاقات المادية وتوظفها لخدمة هذه الأغراض، فلو صحا هذا الشعب الأمريكي وضاق به الأمر وهو يرى سياسات تنفذ في غير صالحه، لأدرك خطورة اللوبي الصهيوني وما يفعله في المواطن الأمريكي قبل أي إنسان في العالم.

ولا شك أن الرئيس أوباما قد نجح في اختبار المائة يوم الأولى التي أمضاها في البيت الأبيض، وصورته الصحف على أنه رجل يبني بيتا بالحجر وليس بالتراب، وأنها أروع مائة يوم منذ الرئيس روزفلت، وأنه نجح في الاختبار القصير، ولكن يبقي الاختبار الكامل.

ثم نرى صحيفة مثل «هاتنجتون بوست» التقدمية، قد كتبت: «شاءت صدف التاريخ أن يدخل رئيس تقدمي البيت الأبيض مع دخول أمريكا أكبر كارثة اقتصادية منذ 1929م، لكن تواجه أوباما ثلاثة عراقيل: أولا: ليس سهلا التخلص من العادات والسياسات القديمة. ثانيا: لا توجد حركة شعبية تقدمية تدعم هذا الرئيس التقدمي. توجد نقابات العمال لكن هي نفسها تواجه مشكلات. ثالثا: لم يقدر أوباما على كسب أكبر المعارضين: قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس، وقادة الشركات والبنوك في «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك)».

وهكذا نرى أن الرئيس أوباما يلقى الكثير من التقدير ولكن تواجهه التحديات الكبرى وسوف يتعرض لتأثيرات مختلفة وقوى تسعى لتحقيق أهدافها، ونبقى نحن خارج الصورة إذا لم نبذل جهدا ونصنع تكتلا يعيننا على الوصول إلى الفكر الأمريكي والمواطن الأمريكي، لأن هذا الرئيس ـ كما ذكر معهد بروكنغز ـ مجرد دخوله كرجل تقدمي هو أهم حدث خلال المائة يوم الأولى له، التي لا تتكرر ولا تتكرر هذه الفرصة في جيل واحد، وأنه قد اتضح خطأ الذين يقولون: إن التقدميين يتساهلون ضد أعداء أمريكا، فقد تشدد هذا الرجل عندما تمهل في سحب القوات الأمريكية من العراق، وعندما أرسل قوات أمريكية إلى أفغانستان، وعندما تشدد مع القراصنة، وأهم الإجراءات التي اتخذها أنه وقف في وجه الحزب الجمهوري، الذي ظل يعلن أن الحزب الديمقراطي هو حزب لفرض الضرائب، وأثبت ان أمريكا فعلا يمكن قيادتها تقدميا عن طريق حزب يحافظ على مصالحها وليس حزب جمع مصالح وضرائب فقط.

وحتى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وجه غمزه إلى الرئيس أوباما، وقلل من درايته بصناعة القرار، ولكن هذا الرئيس الشاب يحاول أن يسير في الاتجاه الصحيح، ومن أخطر ما اتخذه من قرارات هو نشر صور التعذيب التي قامت بها القوى الظالمة في جوانتانامو، ولا شك أن أهم نفوذ تمارسه هذه القوة الصهيونية من خلال إعلامها هو استغلال القدرات الإعلانية والتمويلات للشركات، فتستغل الأمر من خلال إعلانات الشركات في الصحف والمجلات بل وفي أجهزة الإعلام عامة، وقد نشرت أبحاث عن محاولة جريدة الـ«نيويورك تايمز»، التي أسسها (اودلف اولي) وصهره (ارندسو لنربيرغ)، أنها قد حاولت أن تبقى منبرا تقدميا، لكن الضغط اليهودي على الصحيفة جعلها تستسلم. وقال رئيس تحريرها (سولز بيرغ) عام 1944: «إنني اكره أساليب الصهاينة التعسفية الذين لا يترددون في استخدام الأساليب الاقتصادية في إسكات الذين يعبرون عن وجهات نظر مختلفة، إنني اعترض على محاولاتهم قتل سمعة الذين لا يتفقون معهم».

ومن أجمل ما ذكر في مجال التأثير للوبي الصهيوني: «صدر في كتاب عام 2007م للمفكر الإستراتيجي المعروف ومستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، زبغنيو برجينسكي، يحمل عنوانا: فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوة العظمي الأمريكية. ويذهب فيه برجينسكي إلى أن هناك أطرافا تمسك بأذن العم سام، ومنها اللوبي الإسرائيلي الذي يشوه السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط..

فيما يذهب الأستاذان بجامعة هارفارد: ستيفن والت، وجون ميرشماير، إلى أن اللوبيات والمجموعات المؤيدة «لإسرائيل» لا تعمل وفقا لما تمليه المصالح الأمريكية بل من أجل مصالح الكيان الصهيوني، بل وحتى صامويل هانتجتون، صاحب نظرية صراع الحضارات يذهب إلى شيء قريب من ذلك فيما يخص هذه اللوبيات، إذ يشير إلى أن «اللوبي الإسرائيلي مختلف عن غيره من حيث إنه يركز اهتمامه على قضية واحدة هي: بقاء «إسرائيل» وتعزيز المساعدات التي تحصل عليها من أمريكا».

ومن الواضح الآن أن الرأي العام الأمريكي بدأ يتحول تدريجيا عن التأييد المطلق لإسرائيل، بعد أن أخذ اللوبي الصهيوني ينهار عقب فضائح التجسس الإسرائيلية على الولايات المتحدة الأمريكية، التي كشفت عنها أجهزة المخابرات الأمريكية مؤخرا، وأثار هذا الموضوع عددا من القضايا، من أهمها تراجع صورة إسرائيل داخل الولايات المتحدة، والدور الذي يلعبه اللوبي اليهودي الصهيوني في التأثير على السياسات الأمريكية بوجه عام، وما هي الحدود التي يجب أن يكون عليها مثل هذا الدور.

وقد شعر القائمون على اللوبي الصهيوني بخطورة ما يحدث من تفهم لدى فئات من الشعب الأمريكي لأبعاد هذا التأثير السلبي للوبي الصهيوني، فنصحوا إسرائيل بإعادة ترتيب أوراقها وزيادة ميزانياتها المخصصة لهذه الأنشطة، والتركيز على أهمية إسرائيل بالنسبة لأمريكا، وحددوا أسبابا وحججا لذلك، وكما أشار كاتبان متخصصان في القانون الدولي من كلية الحقوق بجامعة المنصورة، بأنه كان للوبي الصهيوني المنظم تأثيرات واضحة في الإبقاء على العلاقات الإستراتيجية الاستثنائية بين إسرائيل والولايات المتحدة، حتى جعلوها وكأنها ولاية أمريكية، لأن جماعات الضغط الصهيوني أصبحت توجه السياسة الخارجية الأمريكية نحو مصالحها، حتى أصبح حجم المساعدات المالية السنوية التي تقدمها أمريكا لإسرائيل 3 مليارات دولار 60 في المائة مساعدات عسكرية، و40 في المائة مساعدات اقتصادية، وتقف إلى جانبها في أزمات الحرب والأزمات الاقتصادية.

وهناك إجماع بين الباحثين على قوة اللوبي الصهيوني وأثره في صناعة القرار الأمريكي لصالح المصالح اليهودية عامة وإسرائيل خاصة، رغم أن اليهود لا يزيدون على 5.8 مليون، أي 2 في المائة فقط من سكان الولايات المتحدة، وهم منقسمون بين فئات اثنية وإصلاحية ومحافظة ومتدينة، ورغم اختلافهم في الكثير من القضايا إلا أنهم يتفقون على أهمية الحفاظ على قوتهم الاقتصادية، واستغلالها للتأثير داخل أمريكا ـ وخاصة الإعلامية ـ على الشعب الأمريكي لمصالحهم وفي مقدمتها بقاء إسرائيل، وينسون الخلافات بينهم في لحظة في سبيل هذا الهدف، وهم أكثر الأقليات ثراء في العالم، ويدخلون بإستراتيجية دقيقة لدعم حملات الرئاسة الأمريكية، ويتحملون أكثر من نصف تكاليفها، ويستغلون الكتاب والفنانين وكل قوى التأثير الممكنة، وهم يتركزون في الولايات المهمة ذات المقاعد الكثيرة، مثل نيويورك وفلوريدا وكاليفورنيا، ليكونوا عنصرا ترجيحيا لأي مرشح حتى يضمن الفوز بجميع مقاعد الولاية، وهنا يكون الصوت اليهودي ذا حساسية وأهمية خاصة، لأن نظام الانتخابات الأمريكية يجعل الرئيس الذي يفوز في أي ولاية ولو بنسبة متدنية، يحصل على كل مقاعدها أي أصواتها الانتخابية.

والمحصلة هي أنه لا بد من أن تتضافر جهود المخلصين للعمل على تأسيس لوبي عربي ـ أي تكتل من أجل التأثير ـ ومصادر إعلامية قوية تشرح قضايانا العربية وتستفيد من إمكاناتنا المالية لتوظيفها في مجال الإعلام عن قيمنا ومبادئنا وقضايانا، وألا نظل في غفلة ونترك الساحة لهذا اللوبي اليهودي، الذي يسيطر بتنظيمه وبحسن تصرفه ويستفيد من شراء الذمم وخداع الناس ودفعهم لتأييد الكيان الصهيوني، ونحن في غفلة عن كل ذلك ولا وجود لنا هناك للدفاع عن أنفسنا سوى ضجيج إعلامي لا يقدم ولا يؤخر ولا يصل إلى المواطن الأمريكي، الذي غيب عن قضيتنا وقصرنا في الوصول إليه، ولو استطعنا وضع برامج دقيقة وركبنا موجة الإعلام بوعي ومسؤولية، بحيث تصل الحقائق إلى الشعب الأمريكي لكانت قطعا ردود فعل المواطن الأمريكي العادي تختلف عما هي عليه الآن، عندما تغيب عنه الحقائق وتزور الوقائع وتصل المعلومات الخاطئة إلى بيته ومكتبه ومنزله، ويروج لها إذاعيا وتلفزيونيا من خلال رجال يتم شراؤهم في الصحافة لهذا الغرض، ونحن في غيبوبة كاملة.

ومن هنا فلا بد من استشعار خطورة هذا التأثير على الشعب الأمريكي، وبالتالي الإساءة إلينا في وقت نستطيع نحن أن نقوم بالدور نفسه ولو تدريجيا حتى نصل إلى الإنسان الأمريكي ونجعله يتفهم قضايانا، وإلا فإنه من الصعب أن يتمكن رئيس أو حتى مجموعة أفراد من تغيير النظام الأمريكي أو إلغاء اللوبيات الظالمة والمؤيدة لإسرائيل.

ولا بد من أن نعي أن أمريكا دولة عظمى وديمقراطية، وتحكمها أنظمة وقوى، وأنه لولا عظمتها لما نجح أوباما كرجل أسود في دخول البيت الأبيض، ولكن أين نحن من هذه المسيرة! وهل نستفيد من وجود أمثاله في الأعوام القادمة عندما يكون لدينا تكتل منظم، وخطوات فاعلة، وخطط لإيصال صوتنا إلى الإنسان الأمريكي، بل وإلى العالم أجمع! وهل نعي أبعاد وقوى التكتل الصهيوني من أجل التأثير، ونفهم أبعاده ونعي دوره وقدراته وتنظيمه!.

«والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».

* وزير الإعلام السعودي الأسبق