«الشعبوية» من السياسة إلى الفقه

TT

راج كثيرا في إطار الحرب الأفكار التي تشهدها خصوصا منطقة الشرق الأوسط تعبير «الشعبوية» الذي يُستخدم كمرادف للديماغوجية ودغدغة عواطف الناس حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة.

وقد يكون أصل الكلمة غير المقصود بها الآن من الناحية اللغوية, الحقيقة, لكن أصبح شائعا أن يتبادل الناس الاتهامات أو التوصيفات في معاركهم السياسية بأن هذا الخطاب أو التوجه شعبوي، وذلك في مجال الانتقاد السياسي بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية.

والمفترض أن تكون الحاجة إلى «الشعبوية» قاصرة على السياسيين, أو من لهم علاقة بالعمل السياسي العام على اعتبار أن جزءا كبيرا من عملهم يعتمد على قبول وتأييد الناس والمجتمعات لما ينفذونه أو يعلنونه من السياسات, وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية, ولكن مثل أي فيروس إذا ساد وتوطن فإنه قابل للانتشار إلى مجالات أخرى يُفترض أن تكون بعيدة عن ذلك, فليس معقولا أن يكون العلم والعلماء شعبويين أيضا, باعتبار أن العلم يعتمد على الحقائق والتنزيه للوصول إلى نتائج حقيقية وأن لا نكون كمن يحرث في الماء ويخدع الجمهور بنتائج زائفة.

ومثل العلم الفقه في الدين المفترض أيضا أن يكون بعيدا عن الشعبوية باعتبار أن علماء الفقه والشيوخ ليسوا نجوم كرة قدم, أو سياسيين يعطون الأولوية لدرجة شعبيتهم على حساب رأيهم الحقيقي في القضايا التي تهم الناس.

ويبدو أن هناك مسافة بين الواقع والمفترض, فالدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قال قبل فترة قصيرة إنه يكتم فتاوى حول قضايا معاصرة تجنبا لتشويش الجماهير عليها, وإن هناك علماء فقه إسلامي متحررين يكتمون آراءهم في صدورهم خوفا من هياج العامة أو سخط الخاصة وخوفا من أن تتعرض سمعتهم للتشويش من الجامدين. هذا الكلام يعكس إلى أي مدى وصلت ظاهرة الشعبوية وتغلغلت حتى وصلت إلى علماء الدين أيضا.

وإذا كان كلامه صادما, فإنه ليس مفاجئا, فمن يتابع المنافسة الضارية في الفتاوى على الفضائيات والمواقع الإلكترونية وصفحات الصحف منذ فترة سيجد أن هناك معركة نجومية دائرة منذ فترة على كسب أكبر عدد من الجمهور وترسيخ النفوذ, أكثر من أي شيء آخر.

قد يكون ذلك ظاهرة مصاحبة لظاهرة أكبر منها وهي الطفرة الإعلامية وفي وسائل الاتصال والتواصل, لكن المؤكد أن هناك سببا آخر أكثر جذرية هو خلط ما هو علمي أو ديني بالسياسة التي هي في أصلها تعتمد إلى حد كبير على البراغماتية والعملية والتكيف حسب الظروف, في حين أن الأصح والأسلم الفصل بين الدور الذي يمارسه السياسي ودور رجل الدين أو العالم بحيث لا يحاول أحد أن يلعب دور الآخر.

فالمجتمعات لا تتقدم فكريا وعمليا بـ«الشعبوية» ودغدغة المشاعر, ولكن بالشجاعة الفكرية والعلمية, والقدرة على التجديد, فكل الأفكار الجديدة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والاختراعات والابتكارات جاءت من عقول شجاعة وليست خائفة.