صناعة أمريكا من جديد

TT

أمضيت أسبوعا كاملا في الولايات المتحدة لأتحدث وأستمع ما بين واشنطن العاصمة وبرنستون المشهورة بجامعتها في ولاية نيو جيرسى، وكانت الصدفة وحدها هي التي جعلتني أصل إلى أمريكا، بينما الرئيس الأمريكي يحتفل بمرور 100 يوم على ولايته ساعة انفجار موضوع إنفلونزا الخنازير، فبدا الأمر كما لو كان الحظ يعاكس باراك أوباما، كما هو معتاد. ولعل معضلة الرجل الكبرى أنه منذ حملته الانتخابية لم يكن قانعا أبدا بأن يكون واحدا من هؤلاء الرؤساء المرموقين، مثل جون كنيدى، أو رونالد ريجان، أو بيل كلينتون، حيث انتقلت أمريكا من خلال الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والحكمة السياسية إلى مكانة أفضل. وعلى العكس، فمنذ بدأ السياسة وهو يجهز نفسه لكي يكون واحدا من هؤلاء الرؤساء الأمريكيين العمالقة الذين غيروا الولايات المتحدة كلها، من أحجام جورج واشنطن، وأبراهام لينكولن، وفرانكلين روزفلت، فكان الأول هو الذي أعطاها الاستقلال عن التاج البريطاني، أما الثاني فحماها من الانقسام وخلصها من العبودية، والثالث أخرجها من الكساد الكبير، وقادها إلى النصر العظيم في الحرب العالمية الثانية. هذه الجماعة من أصحاب التحولات التاريخية الكبرى كان عليهم أن يخوضوا أرضا لم يصل إليها أحد من قبل، ويخلقوا عالما كان كثيرون يعتبرونه واحدا من المستحيلات.

حلم العظمة التاريخية هذا جعل انتخاب الرجل، وهو من أصول أفريقية، ممكنا على الأقل من الناحية النظرية، بل إن هناك ما يجعله متاحا من حيث الاعتقاد العام. ولكن عالم الواقع دائما يعبر عن أمر آخر، وقد كان ذلك الأمر مريرا للغاية، فبينما كان معدل النمو الاقتصادي الأمريكي في الربع السابق الذي أتى إليه بيل كلينتون 4.5%، وكان 2.1% بالنسبة لجورج بوش، فإنه كان بالنسبة لأوباما -6.3%. وباختصار، كانت التركة مثقلة، والاقتصاد الأمريكي يتآكل، وعلى أكتافه توجد حربان شرستان في العراق وأفغانستان، وفوق ذلك كانت أمريكا كلها منقسمة، وعلى عكس ما هو ظاهر أن أمريكا بعد مائة يوم من تولي رئيس من أصول أفريقية للرئاسة أصبحت تعيش مع مجرد رئيس آخر، بغض النظر عن اللون والعرق، فإن الواقع هو أن هناك مقاومة كبيرة لهذا الاعتقاد. وظهر ذلك بوضوح شديد عند التصويت على حزمة المحفزات للاقتصاد الأمريكي -787 مليار دولار- عندما فشل أوباما في الحصول على صوت جمهوري واحد في مجلس النواب مؤيد لمقترحاته، ولولا أن عضو مجلس الشيوخ الجمهوري أرلين سبكتور صوت لصالح الحزمة في مجلس الشيوخ؛ لفشلت خطة أوباما، وقد تحول سبكتور، على أية حال، إلى الحزب الديمقراطي، لأن حزبه لم يكن ليتحمل هذا الانشقاق.

مثل هذا الاستقطاب ليس مطلوبا في السياسة الأمريكية. والرؤساء الأمريكيون تقاس مهارتهم السياسية بالقدرة على التوفيق ما بين الأجنحة والأقطاب المختلفة، وأكثر من ذلك.. فإن أوباما وعد خلال الحملة الانتخابية أن يكون ذلك أسلوبه في الحكم. وكان ذلك هو ما حاوله الرجل أثناء معركة التصويت على القرار الاقتصادي الأعظم، عندما حاول إغراء عدد من النواب والشيوخ الجمهوريين بوسائل تقليدية من أول الركوب على طائرة الرئاسة، وحتى إعطاء مزايا للمناطق التي ينتخبون فيها. ولكن الجهد فشل، وكان الاستقطاب، وربما التعصب، أقوى إلى الدرجة التي جعلت أوباما يعود إلى طريقته الخاصة التي نجح بها في الانتخابات، وهي الاتصال المباشر بالجماهير، سواء من خلال أجهزة الإعلام، أو من خلال الحديث معهم مباشرة في مجالسهم المحلية. ويبدو أن النتائج الأولية لذلك مبشرة. فبعد شهر من اللحظة الحرجة التي كاد يفقد فيها أهم إجراءاته الاقتصادية، كان قد قدم ميزانية قوامها 3.5 تريليون دولار، تحدث عنها في كل مكان، ولكنه لم يتصل بشأنها بنائب جمهوري واحد. ولا يوجد شك لدى أحد أن هذه الميزانية سوف تمر من الكونجرس.

ولكن ربما كان أمضى أسلحة أوباما هو استعداده للعمل من أجل التغيير على جبهة واسعة للغاية، وممتدة على مساحات كبرى في السياسة الداخلية والخارجية. ومن يقترب في واشنطن من أي موضوع، سوف يجد أن هناك مسعى أو آخر في اتجاهه، بل وستستمع إلى أن هذا الموضوع له أولوية عند الرئيس، حتى إنك سوف تتساءل عن الأولويات للرئيس الجديد، وعما إذا كان الرجل تجاهل الدرس الرئيسي الذي تعلمه بيل كلينتون في الحكم، وهو أن «النظام» لا يتحمل أكثر من موضوع رئيسي واحد في كل وقت من الأوقات. وعلى أي الأحوال، فإنه بالنسبة للشرق الأوسط، فإن من يذهب إلى واشنطن سوف يسمع أن له أولوية كبرى، وأن سعى أوباما ـ ومعه ممثله الخاص جورج ميتشيل - ليس من أجل استئناف عملية السلام، وإنما هو من أجل توقيع اتفاقيات السلام. وهناك فارق بين الليل والنهار في التوجه بين هذا وذاك، ربما لا يليق إلا برئيس من هذه النوعية ذات القدرة على الاقتحام.

فهل ينجح أوباما في حل الأزمة الاقتصادية العالمية، وينهي العجز في الاقتصاد الأمريكي، ويبني التوافق الأمريكي الداخلي، ويحل الصراع العربي الإسرائيلي، ويخرج من العراق دون انهيار وحرب أهلية، ويهزم القاعدة وطالبان في أفغانستان وباكستان، ويعيد العقل مرة أخرى إلى القيادة في كوريا الشمالية، وكل ما يلي ذلك من أمور وقضايا؟. والحقيقة أن مائة يوم لا تكفي للحكم، ولكن هناك الكثير مما يمكن تعلمه من إدارة أوباما. فهناك بالتأكيد طاقة هائلة داخل هذه الإدارة، وهي طاقة شابة أولا، حيث إن متوسط عمر من قام أوباما بتعيينهم في إدارته الجديدة هو 46 عاما، حيث الأصغر 25، والأكبر 65 عاما، وكلهم من كبار الخبراء في إداراتهم المختلفة، ونسبة كبيرة - 46% - منهم ممن تعلموا من النجاح والفشل في إدارة بيل كلينتون. وهي طاقة منضبطة ثانيا، أو على الأقل حتى الآن، ويوجد داخلها آليات وأشخاص يعملون على ألا تغيب البوصلة عن الأنظار، فتفقد السفينة اتجاهها ومقصدها، أو تتناثر الاهتمامات بلا فعالية. ورغم قصر المدة في التواجد في الولايات المتحدة، فقد كان ملاحظا، ثالثا، أن هناك دائما عملية قاسية للتقييم، وهي لا تظهر فقط في متابعة تنفيذ وعود أوباما التي أطلقها أثناء الحملة الانتخابية، وإنما تظهر في مراقبة الأمور المستجدة وغير المتوقعة، كما حدث عند اكتشاف حصول المديرين التنفيذيين لشركة AIG على 165 مليون دولار من المكافآت في شركة تدخلت الحكومة الأمريكية توا لإنقاذها من الإفلاس، حيث قرر أوباما - خلافا لرأي مستشاريه الاقتصاديين الذين رأوا ضرورة احترام العقود - الضغط على هؤلاء لإرجاع ما حصلوا عليه؛ حتى أرجعوا 50 مليون دولار. ومن الجائز القول إن أوباما قد بدأ تغيير وجه أمريكا بالفعل عندما جعل، رابعا، نسبة البيض في حكومته 55%، مقارنة بنسبة 94% في عهد رونالد ريجان، و82% في عهد جورج بوش الأب، و68% في عهد بيل كلينتون، و73% في عهد بوش الابن.

نتائج ذلك كله كبيرة بمعايير المائة يوم الأولى، فربما كانت أهم إنجازات أوباما هي التحسن في الحالة السيكولوجية للشعب الأمريكي؛ ففي شهر ديسمبر الماضي كان هناك 15% فقط من الشعب الأمريكي يعتقدون أن بلادهم تسير في الاتجاه الصحيح، وبعد مائة يوم من قيادة أوباما أصبحت النسبة 50%. ولم يكن الموضوع سيكولوجيا فقط، فهناك بعض من المؤشرات على أن الأزمة الاقتصادية تتباطأ، كما أن طلبات بعض الشركات في ازدياد، والبعض منها بدأ في استعادة من خرج إلى البطالة، وارتفع مؤشر داو جونز بنسبة 1% منذ تولي أوباما للحكم، بينما كان قد انخفض بنسبة 34% خلال العام السابق. ولكن هذه المؤشرات لا تكفي للحديث عن الخروج من الأزمة، والبعض يراها تحسنا مؤقتا، وربما لخصت صحيفة «واشنطن بوست» حكاية المائة يوم من حكم أوباما بالقول إنه بالفعل يقوم بإعادة تشغيل أمريكا من جديد. أما ما بعد هذا التشغيل، فهو قصة أخرى، علينا انتظارها!.