البنية الفكرية أم جلد الذات؟

TT

بينما كنت أطالع الصحف اليومية في أحد فنادق العاصمة الأردنية عمان، تقدم إلي مواطن عراقي، وسألني إن كنت سعوديا؟ ومظهري كان يدل على ذلك. فقلت له نعم. فاستأذنني في الجلوس وجلس. ولم أقطع مطالعتي في الصحيفة. وبعد دقائق من الصمت، سألني عن المدينة التي قدمت منها، وعن مدة بقائي في الأردن. وتشعب بنا الحديث عن الرياض وعن غيرها من المدن السعودية، حتى انتهينا إلى بلده العراق، فتحدث عن الوضع المأساوي الذي كانت عليه في عهد صدام، وما تعرض له هو شخصيا، وغيره، من أذى على يد حزب البعث. كونه وطنيا كما يزعم وليس حزبيا.

يرى صاحبنا العراقي أن الشعوب العربية شعوب قائمة على الطائفية والحزبية. وأنها مهما حققت من تقدم حضاري شكلي، ستظل بنفس العقلية الأولى. وأدركت من كلامه قدر الألم الذي يكتنفه، واليأس الذي يجتاح نفسه. كان كلامه طافحا بالمعاناة التي يكابدها الشعب العراقي صباح مساء، ولا تخفى على أحد. وكان يعتقد أن زوال صدام سيُعيد الأملَ له ولأمثاله، ممن قدموا وطنهم على النفس والنفيس، والمال والولد. فيتيح لهم الوطن فرصة العيش بسلام على الأقل، بحيث يخدمونه ليحميهم، ويحميهم ليخدموه. الوطن وليس الحزب أو الطائفه. ثم تفاجأ صاحبنا بأن جذور تلك المعاناة ليست متشعبة في كيان النظام فحسب، بل هي متجذرة ومتغلغلة في أعماق المجتمع الذي لا يزال يمارس هواية الثأر المتبادل!

نهيته عن هذا التعميم. على اعتبار أن المجتمع مكوّن من أفراد متفاوتين في الرؤية وفي الممارسة الثقافية. ثم إن في الدولة مؤسسات رقابية لها خصوصية شبه مستقلة. مهمتها أن تحمي المواطنين من الممارسات الخاطئة التي تنالهم من مؤسسات حكومية أو مسؤولين. وهذا هو مفهوم الدولة الراعية لمواطنيها.

يقول صاحبنا متحسرا: نحن في العالم العربي نستغل المؤسسات ونصيّرها مطيةً. نمرر خلالها ثاراتنا المختلفة باسم الإصلاح والتغيير، وذلك لنلبسها صفة نظامية. ولكي تتصور ذلك سأحكي لك حكايتي.

في عهد صدام، كنت مسؤولا عن قسم القبول في تخصص علمي نادر، في إحدى الجامعات العراقية. وكنت حريصا كل الحرص على تطبيق معايير القبول المعتمدة. وفي اجتماع دعا له مدير الجامعة الجديد، تحدث عن خطته الإصلاحية ورغبته في التغيير، واستبشرنا جميعا.

وذات يوم، فوجئت بأن مدير الجامعة يرسل فريقا لمراجعة أعمالي، بحجة أنني أحابي الطائفة التي أنتمي إليها على حساب الطوائف الأخرى، وهذا خلاف التوجه الإصلاحي. وبعد عدة أسابيع من البحث المستمر، لم يستطع أحد أن يثبت عليّ شيء يدينني، فلم يعجبهم ذلك، فلفّقوا لي تهمة تزوير بعض المستندات، رغبة منهم في إبعادي عن المنصب الذي أشغله، وكنت أتفانى في خدمة وطني من خلاله بأمانة وإخلاص. اضطررت بعد ذلك إلى أن أهاجر وأترك وطني. فقصدت ألمانيا وعملت في جهات تعليمية خاصة.

عاد صاحبنا إلى العراق بعد زوال نظام صدام، وكان يأمل في أن تتاح له الفرصة ليكمل مسيرته العلمية، إلا أن الوضع لم يختلف كثيرا، حيث تعرض لمثل ما تعرض له زمن صدام، ومن الجهة نفسها، رغم أن الوجوه تغيرت.

قلت له إن هذا لشيء مؤسف. وإن كان بينك أو بين أسرتك أو عشيرتك وأحد المسؤولين ثأرا قديما، أليس هناك قانون يسود البلاد، وله الكلمة الفاصلة، فقال متحسرا: ليس في بلدي، إن ألمانيا التي عملت فيها مدة من الزمن شكلت لديّ نموذجا لسيادة القانون. وتتعرض الجهة التي تسيء إليك للمساءلة والعقاب إن لم تثبت إدانتك، سواء كانت تلك الجهة رسمية أو غير رسمية.

سيعود صاحبنا إلى ألمانيا، حيث يجد ذاته. ويجد الاحترام العميق، وتقدير إخلاصه في العمل وإبداعه في مجاله، حسب قوله. صافحني ومضى، تاركا في ذهني العديد من الاستفهامات حول نجاح مشاريع الإصلاح والنهضة في عالمنا العربي، ومدى مواكبة البنية الاجتماعية والفكرية للمشاريع تلك. ولا أدري إن كانت علامات الاستفهام تلك مشروعة، أم أن صاحبنا كان يمارس جلد الذات؟.

[email protected]