ماذا تحتاج بورما من البيت الأبيض؟

TT

عندما تم انتخاب الرئيس الأميركي باراك أوباما، غمرني شعور بالأمل في أن أميركا سوف تستعيد مجدداً مكانتها الأخلاقية الرفيعة، من خلال تقديمها العون للمعوزين والمقهورين بشتى أرجاء المعمورة. ومنذ ذلك الحين، شعرت بالبهجة وأنا أراه يحول مسار البلاد بعيداً عن أكثر السياسات المذمومة التي انتهجتها إدارة بوش، على سبيل المثال، عن طريق وضع نهاية للتعذيب، وإعلان إغلاق معسكر الاعتقال بغوانتانامو باي في كوبا، والتعاون مع باقي دول العالم فيما يخص قضية التغييرات المناخية، لكن تبقى هناك قضية بحاجة ماسة إلى الزعامة الأخلاقية للولايات المتحدة، ألا وهي النضال من أجل رفع شأن حقوق الإنسان والعدالة في بورما. وإحقاقاً للحق، التزم الرئيس بوش دوماً جانب الحق في هذا النضال.

في العام الماضي، عندما ضرب إعصار بورما، غلبنا الهلع ونحن نتابع الحكومة العسكرية بالبلاد ترفض عروض المساعدة لإنقاذ أرواح آلاف الأشخاص ممن يناضلون من أجل البقاء، لكن لم يتمكن الجميع من إدراك ما كانت توليه الحكومة خلال تلك الأيام العصيبة اهتمامها الأكبر، وهو استفتاء للتصديق على دستور جديد، جرت صياغته من أجل إحكام قبضتها على الحكم إلى الأبد.

وبينما كافح القرويون في المناطق المنكوبة للبقاء على قيد الحياة، وساد الهم والكرب باقي أنحاء البلاد حزناً على معاناتهم، عبأت الحكومة قواتها، ليس لخدمة أغراض الإنقاذ، وإنما لدفع المواطنين نحو صناديق الاستفتاء. وبطبيعة الحال، لم يكن مثل هذا الاستفتاء حقيقيا، ذلك أنه لم يكن مسموحا لأي من أبناء بورما التصويت بالرفض. وعلى كل الأحوال، جرى تزوير النتائج النهائية، لكن بقي هذا الاستفتاء دليلاً على انعدام الرحمة بقلوب حكام بورما.

والآن، تعكف إدارة أوباما على مراجعة السياسة الأميركية إزاء بورما. وهناك حاجة لإجراء مراجعة متعمقة على هذا الصعيد. من جهتها، صرحت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية مؤخراً بأن الضغوط الاقتصادية والجهود الدبلوماسية فشلتا في تحقيق التغيير الذي تبتغيه واشنطن داخل بورما. ومن المنطقي القول إن الحاجة تستدعي تعزيز فاعلية كافة جوانب التعاون الأميركي مع هذه البلاد، وجعلها أكثر استهدافاً، وحشد تأييد أوسع لها من قبل الدول المهمة بشتى أنحاء العالم. وفي الوقت الذي نقف في انتظار ما ستسفر عنه عملية المراجعة تلك، وبينما ينتظر حلفاء واشنطن، وتنتظر الأمم المتحدة، وينتظر الشعب البورمي، علينا أن نتذكر جيداً أن الحكومة البورمية لا تنتظر، فمع كل يوم يمر، تتخذ خطوة أخرى نحو أهدافها المتمثلة في القضاء على المعارضة، وتعزيز سيطرتها على زمام السلطة بالبلاد، خاصة في وقت تلوح بالأفق «انتخابات» زائفة جديدة في عام 2010. وعليه، يتضح أن الإدارة الأميركية لا تملك رفاهية دراسة الخيارات المتوافرة، ثم الشروع في قيادة الدول الأخرى في التعامل مع بورما، وإنما يتعين عليها ـ بطريقة ما ـ الاضطلاع بالتفكير والقيادة في آن واحد، قبل أن تفقد المبادرة، وتسود انطباعات خاطئة حول حقيقة موقفها.

وفي الوقت الذي تعكف الإدارة على دراسة سياساتها، آمل أن تضع نصب عينيها أن أصوات من يجابهون الخطر الأكبر لا يمكن سماعها بسهولة. وجدير بالذكر أن شقيقتي الحاصلة على جائزة نوبل، أنغ سان سون كي، الزعيمة المناضلة لحركة الديمقراطية البورمية، لا تزال قيد الإقامة الجبرية، وعاجزة عن الحديث إلى العالم. وخلال الشهور الأخيرة، صدرت أحكام بالسجن لسنوات، بل ووصلت في بعض الأحيان إلى عقود، داخل سجون منعزلة ضد مئات النشطاء البارزين والرهبان والراهبات البوذيين والصحافيين والنشطاء المعنيين بحقوق العمال، والمدونين الراغبين في الإبقاء على ضغوط على كاهل حكومتهم. وبات من العسير، حتى على أفراد أسرهم، زيارتهم. في الوقت ذاته، يتمتع مؤيدو السياسات الحكومية، أو من رضخوا لها بحرية التعبير. ولا ينبغي منح النظام البورمي مكافأة على ممارسته مثل هذا القمع، ويجب الإنصات إلى أصوات من كمم أفواههم، كما لو كانت جدران سجونهم لا وجود لها. وآمل في أن تحفز إدارة أوباما موجة من الجهود الدبلوماسية الدولية إزاء بورما. وعليها أن تبدي استعدادها للحديث إلى القادة البورميين، والعمل على نحو مكثف مع الدول المجاورة لبورما، وتوضيح أن هناك سبيلاً لائقاً يمكن لكافة العناصر البورمية المستعدة للتوصل إلى تسوية سلكه. وينبغي أن تولي إدارة أوباما دعمها للمساعدات الإنسانية الخاضعة لرقابة حريصة موجهة إلى الشعب البورمي، بحيث تصل المساعدات إلى أبناء الشعب، وتسهم في تعزيز الفساد، أو تسفر عن نتائج أخرى غير مقصودة.

وعليه، فإنني أساند دخول الولايات المتحدة في تعاون مع بورما، لكن عليها ألا تقيم هذا التعاون على الآمال. في الواقع، ليس في خبرتنا ما يوحي بأن عروض المساعدة ستدفع جنرالات بورما لتحويل مسارهم، ذلك أنه على خلاف الحال مع بعض الأنظمة الاستبدادية الأخرى، لا يبدي هذا النظام أدنى اهتمام بسلامة بلاده الاقتصادية. ومن المحتمل أن يؤول تخفيف العقوبات، باعتبارها اعترافا بإحرازه النصر في صراعه ضد شعبه، وأنه بذلك أثبت حقه في الحكم. في الحقيقة، توحي كافة خبراتنا بأن التعاون الدبلوماسي من المحتمل أن ينجح فقط، إذا ما حققت العقوبات الهدف المرجو منها. يذكر أنه في جنوب أفريقيا، بدأ حل تفاوضي في الظهور أخيراً فقط عندما أصبحت العقوبات مستهدفة، وأصبح يجري تطبيقها على نحو معقد، الأمر الذي بدا مستحيلاً على امتداد سنوات طويلة.

لن يكون للظلم والقمع الكلمة الأخيرة في بورما (أو زيمبابوي، أو السودان)، تماماً مثلما انتهى الحال في جنوب أفريقيا وبولندا وتشيلي، وجميع المناطق الأخرى التي لا تزال الروح البشرية بها تنبض بالحياة. من جانبه، يؤمن الشعب البورمي الشجاع، الذي ناضل من أجل الفوز بحريته، أننا نحيا في عالم أخلاقي، حيث لا يزال للصواب والخطأ أهمية. وهم بحاجة إلى أن يعلموا أن أقوى ديمقراطية بالعالم لا تزال تؤمن بالأمر ذاته، أيضاً.

* الأسقف الفخري لكيب تاون في جنوب أفريقيا.. والحائز جائزة «نوبل» للسلام في عام 1984

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ(«الشرق الأوسط»)