العين الشرطية

TT

سافر زميل سابق في «الشرق الأوسط» إلى لندن قبل سنوات، وعاد إلى العالم العربي ليكتب انطباعاته. ويبدو أن أكثر ما أساء إليه كإنسان هو كثرة كاميرات المراقبة في تلك المدينة المتزمتة، بالمقارنة مع العواصم العربية الفاتحة المتفتحة مثل براعم الربيع، وآفاق العلم، ونوافذ العالم.

شكا الكاتب، على مدى نصف صفحة من صفحات الرأي، من شيء واحد، هو كاميرات لندن. يا له من تضييق على حرية المواطن والزائر والمفجر وحامل القنابل في كيس من ورق الدكاكين في باصات المدينة. وشكا الكاتب. وشكا حتى شعرت أنه يجب إقامة احتفال كل يوم، في مثل ذلك اليوم، احتفالا بأطول معروض سياسي ضد كاميرات الحراسة، التي تمكن شرطة لندن من اعتقال قتلة الأطفال، ومفجري الباصات، وسارقي البنوك.

كان لبرتراند راسل رأي مخالف لرأي زميله العربي. راسل كان يقول لنا، وهو ابن عائلة نبيلة منذ أربعة قرون، إن العلم وحده خفض المعدل العام لمخالفة القانون وجرائم العنف في المدينة، وإن الروايات التي كتبت في القرن الثامن عشر تعطي صورة مريعة عن لندن: من شوارع مظلمة، وقطَّاع طرق، راكبين وراجلين، وقوة شرطة بلا قوة. ثم جاء عصر الإضاءة والهاتف وأخذ البصمات، وبقية الوسائل العلمية، فانخفضت نسبة الجريمة إلى مستويات لا سابقة لها.

لقد أقيمت كاميرات المراقبة في لندن، ليس من أجل الزوار العرب، خصوصا الكتَّاب منهم، بل بسبب الإرهاب الجمهوري الايرلندي في البداية، ثم بسبب الإرهاب الجديد بعد 11 أيلول، ثم بسبب الباكستانيين القادمين من مانشستر إلى محطة القطار، وهم لا يحملون من الحوائج سوى بضع قنابل ملفوفة في أكياس. ولو كان للكاتب أولاد في لندن يستقلون الباصات؛ لتمنى أن تكون هناك كاميرات تحول دون تكرار القتل الجماعي بأكياس الورق.

الكاميرات لم تخفض عدد الصحف، ولم تتعرض إلى حرية الرأي، ولم تعتد على خصوصية أحد، ولم تصور رجلا يتناول العشاء مع عائلته. لقد صورت جميع المارة، الملايين منهم، من أجل أن تضبط من بينهم، عشرة مجرمين، أو عشرين في اليوم. بهذه الطريقة ضبط قاتل مذيعة في البي. بي. سي، أغرم بها؛ فلاحقها، وقتلها. تلك ـ وغيرها ـ مدينة تضم ملايين البشر، وعددا قليلا نسبيا من رجال الشرطة.

ولذا، لا بد من الاستعانة بالعلم الذي تحدث عنه راسل، لكي نخرج من لندن تشارلز ديكينز. العلم هو الذي قلص نسبة وفيات الأطفال في بريطانيا من 80% عام 1920 إلى 34% بعد عشرين عاما. وليت العواصم العربية تكثر الكاميرات، وتقلل الأقبية.