يأكلون أولادهم

TT

اعترض بعض القراء على ما قلته بشأن قيام المصريين بأكل أولادهم وصغارهم في أيام المجاعات التي كثيرا ما اجتاحت وادي النيل في القرون الوسطى. كيف يقوم المسلم بأكل ابنه وابنته والقرآن الكريم ينهى حتى عن وأد البنات؟ الحقيقة هي أنني أيضا دهشت لدى قراءة ذلك في التراث. ولكنني وجدت أبا حيان التوحيدي يورد ذلك، وأنا أكن احتراما كبيرا لهذا الكاتب البارع والموضوعي. ولكن ما العجب في ذلك؟ ففي هذه الأيام نجد الناس في العراق، هذه الدولة الغنية بنفطها وزراعتها وثقافتها ومياهها وعلمائها أخذوا يبيعون أولادهم للأجانب درءا للجوع. إذا حدث ذلك في هذا العصر المتنور والثري، فلماذا لا نتصور إخوانهم المصريين يأكلون أولادهم في عصور أقل تنورا ورفاها؟

كان من بين القراء الأفاضل الذين واظبوا على قراءة هذا العمود الدكتور خالد الأعظمي. وقد أيد ما قلت وأضاف أن عميد الأدب العربي، طه حسين، قد ذكر مثل ذلك. ووافاني الدكتور الأعظمي بما قاله طه حسين بهذا النص الوارد في المجلد الثالث من كتابه المهم «من تاريخ الأدب العربي»:

«فكما أنك لا تكاد تظفر بسنة خلت من حرب أو قتال، لا تكاد تظفر بسنة خلت من جدب عام أو مجاعة شاملة، يعقبها وباء مبير. ولو أنا أردنا أن نحدثك عن مجاعات بغداد وأزمات القاهرة، تلك التي كانت تضطر الناس إلى أكل الكلاب والميتات، وإلى أن يتخذ بعضهم بعضا طعاما، وإلى أن يضعوا في الدروب والحارات الشباك والأشراك يتصيدون بها الأطفال والضعفاء، ليتخذوهم شوا، لو أردنا أن نحدثك عن ذلك لروعناك، ولخفنا عليك من الفزع والهول، ما ليس من حقنا أن نغريه بك، ولا أن نزجيه إليك. فإذا أردت أن تتبين صدق ذلك فاقرأ ما كتب عبد اللطيف البغدادي، عن مصر، وانظر ما شهده من ذلك بنفسه».

يمضي عميد الأدب العربي رحمه الله فيفصل ما جاء في كتاب عبد اللطيف البغدادي الذي يرجع تاريخه إلى القرن السادس للهجرة فيشير إلى قصص المجاعة التي عمت مصر أيام المستنصر الفاطمي بصورة رهيبة.

الواقع أن وقائع المجاعات شاعت في أكثر البلدان العربية وكان من آخرها ما ذاقته ديار الجنوب العربي في الأربعينات من القرن العشرين. ذكرت لي السيدة دورين انغرامز التي صاحبت زوجها، المستشار البريطاني في حضرموت عندئذ فقالت إنها شهدت ما علق بذهنها طيلة حياتها عندما كانت تتناول البسكويت مع الشاي على الطريقة الإنجليزية فلاحظت طفلا أسقمه الجوع ينظر إليها بحرقة فتقدمت إليه وأعطته بسكويتة. رأت أمه ذلك فهجمت على ابنها وانتزعت البسكويتة من فمه وأكلتها هي. قالت السيدة دورين كان ذلك خروجا على كل غرائز الأمومة التي تجعل حتى أنثى الحيوان تعطي الأسبقية لرضيعها في الأكل والدفاع ودوام البقاء والحياة.

www.kishtainiat.blogspot.com