المناورات التركية ـ السورية: من المعني؟

TT

من المبكر جدا القول إن المناورات العسكرية التركية ـ السورية الأخيرة التي شهدتها مناطق الحدود المشتركة بين البلدين ستكون بديلا لأكثر من 15 عاما من التنسيق العسكري والأمني والاستخباراتي بين أنقرة وتل أبيب وضعت أسسه القيادات السياسية والعسكرية على السواء بتأن وعناية.

فحجم التعاون العسكري بين تركيا وإسرائيل الذي ارتفع في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 2.5 مليار دولار للعام الواحد والذي تحظى إسرائيل فيه بحصة الأسد لن يفرط به بمثل هذه السهولة ولن تقود الأمور برأينا إلى مقاطعة وتباعد تركي ـ إسرائيلي رغم أكثر من طعنة سياسية وأمنية ودبلوماسية تلقتها أنقرة مؤخرا من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. لكننا مع ذلك لا يجوز أن نستخف بهذا الاندفاع والتقارب التركي ـ السوري الذي بات كما تقول الأرقام ينافس إسرائيل في علاقاتها مع أنقرة والذي وضعت أسسه قبل 6 أعوام تقريبا خلال لقاء جرى بين قائد الجيش التركي حسين كفرك أوغلو ونظيره السوري حسن التركماني لتوقيع اتفاقيات تعاون عسكرية وأمنية تشمل هذا النوع من المناورات والتدريبات وتبادل الخبرات بين الجانبين. طبعا ما أغضب تل أبيب بالدرجة الأولى هو عدم إصغاء أنقرة لتحذيراتها والاهتمام بانزعاجها من الانفتاح المتواصل على العالمين العربي والإسلامي الذي يسجل معظمه في خانة تراجع علاقاتها هي مع تركيا لكن ما أغضبها أكثر هو استمرار هذا التقارب العربي – التركي في حين تعيش هي عزلتها التي تعاني منها هذه الأيام مع ولادة حكومة ائتلافية يمينية دينية متشددة يتجاهلها معظم دول الاتحاد الأوروبي وتنتقد مواقفها الولايات المتحدة الأميركية ويرفضها العالمان العربي والإسلامي. وحكومة نتنياهو التي سارعت للترويج عبر وسائل إعلامها إلى استعدادات تجري لتجميد التعاون العسكري في أكثر من مجال بين تركيا وإسرائيل يتقدمه وقف تسليم صفقة طائرات «هيرون» للرصد والتجسس والتي تتحرك دون طيار لا بل أن مصادر إعلامية شبه رسمية بدأت الحديث عن تجميد المشروع المشترك الذي وضعت أسسه قبل عامين والهادف إلى تصنيع دبابة هجومية مشتركة.

ومعرفتنا أن المناورات الأخيرة التي يعرف الجميع محدوديتها وضيق رقعتها من خلال حجم القوات المشاركة فيها وطبيعة الأسلحة المستخدمة هناك لا تستهدف أية دولة أخرى بل هي مجرد تمرينات تقع في نطاق إبراز حسن النوايا والانفتاح والتقارب بين تركيا وسورية والذي لعبت الكثير من العواصم العربية دورا مركزيا فيه رغم الطبل والزمر الإسرائيلي المتواصل وحملات التهويل والتضخيم، فإننا لم نعرف حتى الساعة رأي الدول العربية في ما يجري بوضوح، وإذا ما كانت هذه العواصم تميل إلى تأييد وجهة نظر قيادة الجيش التركية التي وصفت ما يجري بأنه «يهدف إلى تعزيز الصداقة والتعاون والثقة بين البلدين» اللذين كانا حتى الأمس القريب في حالة استنفار وتوتر دائم لأكثر من سبب.

العالم العربي الذي وقف إلى جانب سورية في أكثر من أزمة ومحنة لها مع تركيا وتحديدا في مسائل المياه ومشاكل الحدود والتوتر الأمني الذي وقع عام 1998 وكاد أن يقود إلى حرب شاملة بين البلدين لولا دخول المملكة العربية السعودية ومصر مباشرة على الخط والتوسط لإنهاء هذه الأزمة، محذرين من أن أي هجوم يستهدف الأراضي السورية يعني مباشرة الدول العربية التي لن تكون في موقف المتفرج كما قالت بيانات جامعة الدول العربية وقتها فهو حتى ولو لم يعلن رأيه العلني حول هذا التقارب والانفتاح التركي السوري المتواصل فإننا نعرف تماما موقفه حيال ما يجري من خلال الانتقادات التي وجهها بصراحة إلى التنسيق الحربي التركي ـ الإسرائيلي والمناورات العسكرية المتواصلة في المتوسط. لا بل أن الدول العربية التي وسعت في السنوات الأخيرة من رقعة تعاونها العسكري مع تركيا من خلال عقود تسلح وتبادل خبرات وبعثات تدريب مشترك أكدت مرة أخرى أنها متمسكة بهذه الفرصة التاريخية السانحة لاستغلالها على طريق التقارب العربي التركي في هذه المجالات للقضاء على حالة اللاتوازن القائمة لصالح إسرائيل ومنذ سنوات. تركيا التي وقفت جنبا إلى جنب في السنوات الأخيرة مع الكثير من الدول العربية في مواجهة محاولات عزل سورية غربيا وبتحريض إسرائيلي مباشر تعرف تماما أن ما يجمعها بالعالم العربي أكثر وبكثير مما يقودها نحو أي مشروع تعاون وتقارب مع إسرائيل.

لا أدري لماذا عادت بي الذاكرة فجأة إلى ما قبل 4 أعوام عندما كانت تتبارى السواعد القوية على الحدود السورية التركية في مناطق ماردين وأورفة في المناسبات والأعياد تتسابق على رمي علب الشاي والقهوة والسجائر وقطع القماش لتعبر المناطق العازلة فينجح البعض منها في رحلة الاختراق الجوي، هذا بينما يسقط البعض الآخر في حقل الألغام مخيبا آمال عجوز وابنتها العروس في الجانب الآخر ومحطما أحلام أخ نسي شقيقه هناك أثناء ترسيم الحدود وطبعا كل هذا يجري ويدور على مرأى ومسمع أبطال العولمة والحداثة والعصرنة.

* كاتب وأكاديمي تركي