في ما يتعدى الغجر

TT

سواء صحت روايات بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية عن استعداد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو «للنظر بإيجابية» في مطلب واشنطن الانسحاب من قرية الغجر الحدودية اللبنانية أم لم تصح.. فإن آخر ما يمكن استنتاجه من هذه «الأريحية» أنها هدية إسرائيلية مجانية للشرعية الدولية، أو للبنان، أو حتى لرئيس حكومته، فؤاد السنيورة، كما حاولت أن توحي بعض الجهات الحزبية.

رئيس حكومة الليكود أضفى طابعا من المصداقية على عرضه بربطه، كعادة أي مسؤول إسرائيلي، بالذريعة المزمنة لتنفيذ أي انسحاب من الأراضي العربية المحتلة: عدم التفريط «بأمن» إسرائيل، وعليه وضع استعداده للانسحاب في إطار تنفيذ القرار الدولي 1701 والترتيبات الأمنية التي فاوض الإسرائيليون لبنان عليها عبر قيادة القوات الدولية في الجنوب اللبناني.

ولكن ما يسميه نتنياهو، بتعبير مفرط بالدبلوماسية، «طلبا» أميركيا للانسحاب من الغجر، هو عملية ضغط مركزة بدأت في عهد حكومة إيهود أولمرت، واستمرت في عهد نتنياهو على صعيدين متلازمين:

ـ الصعيد الدبلوماسي، عبر الرسالة التي نقلها لنتنياهو موفد الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الشرق الأوسط، جورج ميتشل، خلال جولته الأخيرة على دول المنطقة.

ـ الصعيد الشخصي، عبر «تمهل» أوباما في تحديد موعد لاستقبال نتنياهو في البيت الأبيض وترحيبه، بالمقابل، بالعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني.

وفي حال اعتبار هذه «الإشارات» غير كافية لتبليغ نتنياهو رسالة أوباما، ترافق التمهل في تحديد موعد زيارته إلى واشنطن مع تسريبات من البيت الأبيض عن احتمال وجود الرئيس الأميركي خارج واشنطن في الموعد المطلوب لهذه الزيارة.

قد تبدو هذه الضغوط الأميركية «لينة» بمنظور الدبلوماسية الدولية، ولكنها غير مألوفة في سجل العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية الوثيقة.

ولأن نتنياهو يدرك تماما أن الشارع الإسرائيلي لا يرتاح إلى رئيس حكومة غير مقبول من واشنطن، وكي لا يصبح أول رئيس حكومة إسرائيلي «مكشوف» من غطاء واشنطن، سارع إلى الإعلان عن «استعداده» للانسحاب من قرية الغجر في محاولة منه لإقناع الرئيس أوباما أنه شخص «يمكن أن ينجز الوعود وينفذ خطوات دبلوماسية»، كما ذكرت نشرة «هآرتز» الإسرائيلية (3/05/2009).

إذن المقصود من وعد الانسحاب الإسرائيلي من الغجر هو، بالدرجة الأولى، تحسين صورة نتنياهو الشخصية في البيت الأبيض «قبل» لقائه بالرئيس أوباما، ومحاولة «تمييع» الاستحقاق الآخر المطلوب بإلحاح من واشنطن: إعلان القبول بحل الدولتين. وهذا يعني أنه سواء تم الانسحاب قبل الانتخابات اللبنانية أم بعدها، سيظل قرارا يرتبط بالعلاقة الثنائية بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، وبعلاقة نتنياهو بشريكه المتشدد أفيغدور ليبرمان من جهة أخرى.

غير خافٍ أن العلاقة الإسرائيلية بالولايات المتحدة تكتسي أهمية خاصة في هذه المرحلة التي تفتقد فيها إسرائيل إلى علاقات جيدة مع الاتحاد الأوروبي، خصوصا بعد أن أعلنت المفوضة الأوروبية للعلاقات الخارجية، بينيتا فيريرو ـ فالندر، الأسبوع الماضي، أن الوقت «لم يحِن للمضي إلى أبعد من مستوى العلاقات الحالية» بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، نظرا إلى الغموض المحيط بمسار عملية السلام ورفض حكومة نتنياهو الالتزام بحل الدولتين. (ما اقتضى إيفاد وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان إلى العواصم الأوروبية لمطالبة الأوروبيين «بان يتمتعوا بكثير من الصبر» وليبلغهم من روما أن حكومة نتنياهو «لم تجهز خططها على كافة الأصعدة بعد»).

ولكن نتنياهو يدرك تماما أن الغجر ليست «العقدة» القائمة حاليا على صعيد العلاقة الأميركية الإسرائيلية الوثيقة.. بل حل الدولتين الذي يحاول أن يبعد استحقاقه قدر الإمكان باقتراح «تنازلات» جانبية على الإدارة الأميركية في موضوع الانسحاب من الغجر، لا تلزمه بحل الدولتين ولا تهدد حكومته بالتفجر من الداخل.

من هنا أهمية دعوة اللبنانيين، المتوترة أعصابهم من الخطابات الانتخابية المتشنجة، ألا يسارعوا إلى تسييس الانسحاب الإسرائيلي المقترح من قرية الغجر مثلما سيّسوا موضوع الإفراج عن الضباط الأربعة المحتجزين على ذمة التحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري.. فالمناورة لا تعنيهم، حتى الآن، لا من قريب ولا من بعيد.