المعارضات العربية بين إطلاق النار والانقسام

TT

ذكرت أخبار اليومين الماضيين أن مفاوضي الحكومة والمعارضة بجنوب اليمن اتفقوا على وقف النار وسحب «المسلَّحين» من الطرفين: الحكومة والجيش ورجال الأمن، والمعارضين اليمنيين الذين تصلُ مطالبهم إلى الانفصال بالجنوب عن الشمال من جديد! وهذا الذي يحدُث بجنوب اليمن الآن، سبق أن حدث مثله ويحدُث في أقاصي شمال اليمن في منطقة صعدة، وبين جيش الحكومة، وَمَنْ عُرفوا بالحوثيين، والذين نشبت بينهم وبين الحكومة خمسُ حروبٍ كانت تنتهي دائماً بالاتفاق على وقف النار وسحب المسلَّحين من الطرفين. وقد شاع قبل شهرٍ أو أنّ الحكومة أعلنت عن بدء الحرب السادسة التي يشنُّها الحوثيون على الحكومة اليمنية بدعمٍ من إيران! أمّا متمردو جنوب اليمن؛ فإنّ أحداً لا يدعمُهُمْ، أو أنّ الحكومة ما أعلنت عن أحدٍ بعد وتتراوحُ مطالبُهُم بين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. لكنّ الطريف أنّ الجنوب ـ وعاصمته عدن ـ كان منفصلاً عن الشمال منذ احتلَّه البريطانيون عام 1830، وما كانت أوضاعُهُ أحسَن، وهو الذي اختار الوحدة من جديدٍ عام 1990، ليعود النزاع فيتطور إلى حربٍ عام 1994.

إنّ هذا الذي يحدث باليمن، حدث من قبل مثله بالعراق، وبالصحراء بين المغرب والجزائر، وبالصومال، وبالسودان، وبالجزائر، ولا أدري أين في أرجاء «الوطن العربي» الشاسعة! ويبدأ الأمر عادةً بمطالب ترفعُها نُخَبٌ في العاصمة أو على مقربةٍ منها، ثم تذهب بعضُ تلك النُخَب إلى ناحية معينة بالبلاد، وبعضها الآخر إلى الخارج. ثم تنشأ «جبهةٌ» تُعلن عن نفسِها للتحرير أو للإصلاح أو للأمرين، ويبدأ «الكفاح المسلَّح» الذي لا ينتهي في العادة بتحريرٍ ولا بإصلاح بل بفوضى مطلقة يسقطُ فيها البلدُ كُلُّهُ أو أكثره دونما أُفُقٍ من أيّ جهة. وفي العادة أيضاً أنّ «التدخل الخارجي» لا يحدث في البداية أو لا يكون في أصل المُشكل؛ بل يحدُثُ فيما بعد عندما تتكون «الجبهةُ» التي سُرعان ما تجدُ داعماً أو أكثر. وفي زمن الاستعمار؛ فإنّ «المعارضات» كانت مدعومةً خلال الحرب الباردة من جانب الاتحاد السوفياتي أو الصين. أمّا بعد «التحرر» ـ وليس بسبب الحرب الشعبية ـ فإنّ الأغلب الأعمَ أنّ تستند المعارضاتُ السياسيةُ أو المسلَّحةُ إلى بلدٍٍ مجاورٍ للبلد المعْني أو بلد من الإقليم نفسِه، ودونما سببٍ واضحٍ، كما لا يكونُ واضحاً سببُ الثَوَران نفسه أو سببُ حَمْل السلاح على الأقلّ!

لماذا يحدث ذلك الآن في عدة بلدانٍ عربية، وكيف يمكنُ علاج هذه الظاهرة المُفْزعة؟ أولُ أسباب ظهور المعارضة التي تحمل السلاح الاستبداد، أو انفراد جهة عسكرية أو حزبية بالسلطة بعد استقلال البلد المعْني أو بعد تغيُّر نظام الحكم فيه. وقد يعمدُ الرئيس القائم والمخلَّد إلى استخلاف عسكريٍ مثله أو استخلاف قريبه أو ابنه، وقد يحدث انقلابُ قصرٍ يحلُّ فيه ضابطٌ محلّ ضابط. لكنْ في الحالات كلّها؛ فإنّ قسماً كبيراً من النُخْبة ينعزل، ويدفعُهُ الاستبعادُ إلى التمرد التدريجي؛ إذ إنّ معارضتَهُ تُواجه بالقمع السياسي الأمني أو الأمني ثم السياسي، فيعمد المعارضون إلى حَمْل السلاح على النحو الذي ذكرناه سابقاً.

وهذه الحالة لا تقتصر على بلدان الوطن العربي. أعني حالة الانقسام في النُخَب السياسية والعسكرية، إلى مَنْ هو متشبثٌ بالسلطة دون إشراك «رفاقه»، وَمَنْ هم معزولون أو صاروا كذلك. فقد حدث مثل ذلك في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا ويحدُثُ منذ الستينات من القرن العشرين. الجديد والفريد في الوطن العربي لجوء المعارضة إلى السلاح ليس استناداً إلى حزبٍ سياسيٍ ولا حتّى إلى جزءٍ من الجيش أو قوى الأمن؛ بل إلى فئةٍ أو فئات ريفية إثنية أو لغوية أو جغرافية أو دينية. بحيث يحمل المتمرد أو المتمردون باطناً وسراً مطالب محقّة في الأصل لتلك الفئات (سياسية أو اجتماعية)، لكنها تنتهي دائماً بالمطالبة بالانفصال على خلفيةٍ قوميةٍ أو دينية أو جغرافية. أمّا المتمرد نفسُه فإنّ مطلبه العلني يكونُ إصلاحياً أو دعوة للمشاركة؛ وعندما يتطور النزاع ينشقُّ عنه في العادة بعضُ أنصاره أو حلفائه (ينتمون في الغالب أكثر منه إلى الإثنية الريفية الدينية أو الجغرافية)، ولدى هؤلاء تظهر غالباً دعوات الانفصال وإنشاء دُويلة أُخرى!

المسألة إذن وفي الأصل انقسامٌ أو نزاعٌ على السلطة داخل النخبة الحاكمة بالعاصمة وجوارها. لكنها عندما تتطور، تتجاوز السياسة والصراع على السلطة إلى التلاعب بالتكوينات الاجتماعية والتكوينات الاجتماعية في العادة جغرافية/ محلية أو إثنية أو دينية/ مذهبية. وقد كانت هناك نظرية حملها علماء الاجتماع والانثروبولوجيا منذ القرن التاسع عشر تعتبر «المجتمعات الشرقية» ذات الأصول البدوية والعشائرية «مجتمعاتٍ انقسامية» بسبب قيامها في العمق على وَحَداتٍ منفصلة/ متصلة، جمعها الاستعمار، وجمعتها السوق العالمية بطرائق عشوائية، وحوَّلتْها إلى دول! وما كان كثيرٌ من دارسينا يُسَلِّمُ بتلك النظرية أو الفرضية؛ بل كانوا يستعملونها جزئياً لتعليل ضعف الحزبية السياسية، وحركات المجتمع المدني. بيد أنَّ ما لم يجر التسليمُ به في النظرية، صار يحدث عملياً، وفي بلدانٍ عربيةٍ وإفريقيةٍ عديدة. ويوشكُ الصعودُ الإثني (أكثر من الديني أو المذهبي) أن يتحول إلى الظاهرة الأبرز في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين!

وهكذا فهناك «بلاءٌ» اسمُهَ الاستبداد، يقوم به وعليه العسكريون العرب منذ أكثر من أربعة عقود. وعندما تشتدُّ الضغوطُ من خلال الاستبداد على النُخَب السياسية أو العسكرية، تعمدُ تلك النُخَب لاستخدام التكوينات والتلوينات المحلية لتحقيق مطامحها. وإذا وجدت جهةً خارجيةً داعمةً أو أكثر، حملت السلاح، وطالبت أولاً بالإصلاح، ثم تصلُ فئةٌ أكثر راديكالية، فتطالب بالانفصال باسم الخصوصية المذهبية أو الجغرافية أو الإثنية أو كلّ هذه الأُمور. وهذا يحدث اليوم في السودان والصومال واليمن، مع مُشابهاتٍ له أقلّ هولاً وشدةً في عدة بلدانٍ عربيةٍ وإفريقيةٍ أُخرى.

والواقع أنه إذا كان «الاستبدادُ» هو السِمةُ الأظهر للحكم العسكري وشبه العسكري؛ فإنّ السِمة الأُخرى البارزة في المجتمعات العربية والإفريقية في العقود الأخيرة. تضخُّم المُدُن، وفَقْر الأرياف وبؤسها. ولذا فمن الطبيعي عندما لا تهتمُّ النُخَبُ الحاكمةُ إلاّ بتكديس الثروات وتركيز القوة، أنّ يضطرب الريف مع اشتداد بؤْسِه، وأن تحدث النزاعاتُ في المُدُن بين الفئات الاجتماعية، والأُخرى شبه السياسية؛ وبخاصةٍ أنها فئاتٌ مُهاجرة ومتفاصلة ومتقاطعة. والظاهرةُ الثالثة التي تستحقُّ الذكر لأنها تُسهم في الاضطراب أو تصبح بيئةً له: الخصوصياتُ الدينيةُ والإثنية، التي تتحول تدريجياً في العقدين الأخيرين من حركات عامة ذات طابع أُصولي أو إحيائي إلى انشقاقاتٍ في الحالة الدينية، وإلى إثنيات متشدِّدة في الحالة «القومية».

ولذا فإنّ الأمر أعقَد من أن يقال الآن إنّ الديمقراطية هي الحلُّ الأمثَلُ لكل المشكلات، وفي مقدمتها مشكلة التنمية. ذلك أنّ «القوى الحاملة» لفكرة «المشاركة» تكون في العادة قوى مدينية حزبية تتمتع بقاعدةٍ عريضةٍ، وتملكُ لذلك مشروعاً عاماً. وهذه الفئات تلقّت ضرباتٍ ونكساتٍ خلال الحكم العسكري الطويل والمرير. لكنّ المطلوب والعاجل أن يزول بالتدريج الحكام العسكريون، وأن تزول الوراثاتُ في السلطة. فقد تبين أنّ الاستبداد واستخدام القوة المجردة لا يقمع الاضطراب بل يُفاقمه، ولا يعينُ على استمرار التوحُّد بين أجزاء البلاد. بل الذي يحدث العكسُ تماماً. إذ إنّ استخدام القوة يحوّل التمايُزات إلى انقسامات، تقودها النُخَبُ أولاً، ثم يقودُها المحليون الانقساميون بالفعل. لذا هنا مسارٌ طويلٌ ومؤْلم، لكنه يبدأَ بالعودة إلى الحكم المدني أو حكم المدنيين، الذين لا يملكون قوةً عسكريةً سهلة الاستعمال؛ فيضطرون للجوء للتفاوض والتسويات. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.