سراب أوباما الاقتصادي

TT

لم يخف الرئيس أوباما رؤيته بشأن اقتصاد الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين، فأشار إلى أننا سوف نقود العالم في التكنولوجيا الخضراء لوقف ارتفاع درجة حرارة الأرض، وأن تحديث الإنجازات الطبية سوف يرفع من قدراتنا الصحية، ويتحكم في الإنفاق على الرعاية الصحية، ويمكننا من توسيع مظلة التأمين. وستعيد تلك الاستثمارات في الطاقة والرعاية الصحية إنعاش الاقتصاد، وتوفر الملايين من الوظائف المربحة لأبناء الطبقة الوسطى من الأميركيين.

تلك الصورة التي رسمها أوباما صورة خطابية رائعة، تثير الشباب وتناسب الحالة المزاجية للبلاد، التي تلقي باللائمة على «الرأسمالية الجشعة»، لما وصلت إليه البلاد من أزمات اقتصادية. وقد وعد أوباما بأهداف مجتمعية ورفاهية يتم تقاسمها على نطاق واسع، لكن المشكلة هي أن تلك الأهداف قد لا تتحقق على أرض الواقع كما تتحقق في خطب أوباما، فلا يزال الديمقراطيون في الكونغرس يسعون إلى إعاقة التشريعات الخاصة بالحد من انبعاث الغازات التي ترفع درجة حرارة الأرض، كما يعيقون أيضا التشريعات الخاصة بتطبيق المعايير العالمية للتأمين الصحي. ولذا، فلا يجب أن نصاب بالذهول إذا لم تحدث تلك التغيرات بعيدة المدى أثرا كبيرا في الأزمة الحالية اليوم.

إن ما يقترحه أوباما هو «اقتصاد ما وراء المادة»، إذ سيركز على خفض الإنتاج للبضائع الخاصة والخدمات، ويسخر الاقتصاد لتحقيق الأهداف الاجتماعية الكبرى، وهو بذلك يبتعد عن المنطق المعياري للتقدم الاقتصادي. ومنذ فجر العصر الصناعي، كان ذلك المنطق المعياري بسيطا، ويتمثل في إنتاج أكثر مع أرباح أقل («إنتاجية» بنبرة اقتصادية). وقد تطورت الأسواق الشاملة بالنسبة للملابس والسيارات وأجهزة الحاسبات، وأشياء أخرى كثيرة، نتيجة لأن انخفاض التكاليف أدى إلى وفرة الإنتاج. وقد ارتفعت مستويات المعيشة، وفي المقابل كان منطق «اقتصاد ما وراء المادة» هو العكس: إنفاق أكبر، ومكاسب أقل.

أما فيما يتعلق بارتفاع درجة حرارة الأرض، فإن المقترح الرئيسي على أجندة أوباما هو برنامج خفض انبعاثات الغازات، عن طريق المحفزات الاقتصادية، الأمر الذي سيكون عبر فرض ضريبة على الوقود الحفري (النفط والفحم والغاز الطبيعي). والفكرة من وراء ذلك، هو أن يؤدي رفع أسعارها بالمنازل والأعمال إلى خفض استخدامها، أو الاتجاه إلى مصادر بديلة للطاقة، مثل الشمس، لكن بصورة مجملة.. سوف ننفق المزيد على الطاقة، لكننا سنحصل على القليل منها. وقصة الرعاية الصحية مشابهة لذلك، على الرغم من اختلاف السبب، فنحن ننفق المزيد والمزيد على الرعاية الصحية (21% من الاستهلاك الشخصي، كما يقول غاري بورتلس الاقتصادي في معهد بروكينغز)؛ ولا نجني سوي القليل والقليل من نتائج الرعاية الصحية. والسبب في ذلك هو التكنولوجيات الحديثة المكلفة، والنتائج العفوية للتغير في سياسات التأمين الصحي، التي شجعت على إجراء الفحوصات غير الضرورية وزيارات الأطباء. وقد يفاقم توسيع مظلة التأمين الصحي من خطر هذه المشكلة. والكثير من الأفراد غير الخاضعين للتأمين الصحي يتلقون رعاية صحية مجانية، أو يُلاحَظ أنهم ليسوا بحاجة إلى الكثير، لأنهم لا يزالون صغارا (40% منهم بين 18 و34 عاما). وتشكل الصحة والطاقة معا حوالي ربع الاقتصاد الأميركي، وإذا ما زادت التكلفة، فإنها ستزيد من حجم إنفاقنا في النواحي الأخرى. وربما تخلق سياسة الرئيس، بحسب قوله، وظائف عالية الدخل في مجال الطاقة النظيفة أو الرعاية الصحية، ولكن إذا ما حدث ذلك، فإنها ستدمر الوظائف في القطاعات الأخرى. فكر في ذلك، إنك إذا ما أنفقت المزيد على البنزين أو الكهرباء أو التأمين الصحي، فإنك بذلك تنفق بصورة أقل على الأشياء الأخرى، بداية من الطعام إلى إصلاح المنزل، وسوف تعاني الوظائف في هذه القطاعات. والنظرة بأن تكاليف الطاقة والصحة قد ترتفع وتخلق المزيد من المكاسب في الفوائد الأساسية، لا تُعَدّ «تقدما اقتصاديا»، فحسم تكلفة الطاقة العالية في المنازل (كما أشار البعض)، إضافة إلى خفض الضرائب، لن يحل مشكلة انخفاض الدخول. وبالنظر إلى العجز الضخم في الميزانية، الذي نشهده اليوم، لا بد من زيادة بعض الضرائب، أو خفض بعض البرامج الأخرى.

ماذا بشأن الفائدة الشاملة؟ : يعرف «اقتصاد ما وراء المادة» بأنه الرغبة في التضحية بالمال في مقابل حالة نفسية «الشعور بالراحة». وقد يدفع البعض أسعار عالية للطاقة بسعادة، إذا ما علموا أنهم ينقذون كوكب الأرض بذلك من ارتفاع درجة الحرارة. وقد يقبل البعض الضرائب العالية، إذا ما ظنوا أنهم يحسنون من صحة وتعليم الفقراء. ولسوء الحظ، فإن تلك الفوائد النفسية ربما تكون مبنية على الخيالات. ماذا إذا كانت الانخفاضات التي ستقوم بها الولايات المتحدة في الغازات المنبعثة في الجو ستقابلها زيادة في معدلاتها من قبل الصين؟، وماذا إذا لم يُحْدِث التأمين الصحي سوى بعض النتائج المتواضعة في صحة الأفراد؟.

إن أوباما وحلفاءه رفضوا تلك الأسئلة، وتركوا انطباعا بأن تلك الاكتشافات العلمية سوف تسهم في إنتاج طاقة نظيفة ورخيصة أيضا. وربما يحدث ذلك، لكنه لم يحدث بعد. لقد تحدثوا مرارا حول الحاجة إلى ضبط الإسراف في الإنفاق على الصحة، وهو ما يعني أنهم وجدوا الطرق الكفيلة للقيام بذلك. ربما سيتمكنون، لكنهم لم يجدوها بعد.

لا يمكننا بناء اقتصاد إنتاجي على أسس الصحة والطاقة الخضراء. وسوف تخلق تلك البرامج أعباء بالنسبة للكثيرين، وفوائد بالنسبة للبعض. وبالفعل فإن ضعفهم ربما يغذي بعضهم البعض، إذ يتطلب الإنفاق الكبير على الرعاية الصحية المزيد من الضرائب التي توازي خفض الانبعاثات الغازية. ونحن بحاجة إلى تغييرات واضحة في هذه المجالات: طرق للتحقق من الإنفاق الزائد في مجال الرعاية الصحية، وتعزيز الاستخدام الكفء للطاقة. وقد دافعت زمنا طويلا عن ضريبة البنزين، على أسس الأمن القومي، لكن رؤية أوباما من أجل التجديد الاقتصادي إنما هي سراب لخدمة أغراضه الشخصية.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ («الشرق الأوسط»)