إنه وطنك أيضا.. سيدي الرئيس

TT

في إطار خطابه بالغ الأهمية، من منظور السياسة الخارجية الذي أدلى به في براغ، وأكد خلاله التزام الولايات المتحدة بالعمل على بناء عالم خال من الأسلحة النووية، أعلن الرئيس أوباما بلغة طنانة في إشارة إلى الصاروخ الذي أطلقته كوريا الشمالية، والذي علم بأمره قبيل إلقائه الخطاب ببضع ساعات «يجب أن تكون القواعد ملزمة، وأن تتم معاقبة الانتهاكات، وأن تحمل الكلمات معنى. ويجب أن يقف العالم جنباً إلى جنب لمنع انتشار هذه الأسلحة. وحان الآن الوقت لاستجابة دولية قوية».

ومن العسير تخيل دعوة رئاسية أكثر حمقاً، فما تلك «الاستجابة الدولية القوية» التي أعدها أوباما لمواجهة تحدي كوريا الشمالية الصفيق للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ـ رغم كونه «ملزماً» ـ الذي يحظر مثل هذا الإجراء؟. والملاحظ أن الجلسة الطارئة الإلزامية التي عقدها مجلس الأمن لم تسفر عن شيء، لا عقوبات، ولا قرار، ولا حتى عن بيان، بل إن الصين وروسيا أعلنتا صراحة أنهما لا تريان أي نوع من الانتهاك أيًّا كان. والأدهى من ذلك، أنهما لم يسمحا بإصدار بيان باسم الأمم المتحدة يجرؤ على التعبير عن «القلق»، ناهيك عن الإدانة.

وبعد الحصول على رد الفعل هذا من المجتمع الدولي والأمم المتحدة ـ اللذين يعتبران أشبه بقصة خيالية ومسرحية هزلية على الترتيب ـ فما هي الاستجابة الأخرى التي ينوي أوباما تقديمها؟. وفي اليوم التالي مباشرة، أعلن وزير دفاعه روبرت غيتس عن إجراءات خفض هائلة في خطة مظلة الدفاع الصاروخية، بما في ذلك وقف أي عمليات نشر إضافية للصواريخ الاعتراضية التي يتركز مقرها في ألاسكا، والمصممة بوجه خاص لإسقاط الصواريخ البالستية الكورية الشمالية العابرة للقارات. إذاً، تلك هي «الواقعية» التي وعد أوباما باستعادتها في إطار السياسات الخارجية الأميركية.

بالتأكيد، يتبع أوباما رؤية محددة، فبدلاً من الاعتماد على التفوق التقني الأميركي التقليدي في مجال الدفاعات الصاروخية لتوفير مستوى من الأمان النووي، سيعمد أوباما بكل جرأة إلى نشر قوة النموذج والقدوة، من خلال إعلان التزام بلاده بإجراءات محددة على صعيد نزع التسليح، مثل التصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، مثلما تعهد أمام الحضور المهللين في براغ.

والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن كيف يمكن أن يدفع تصديق الولايات المتحدة على هذه المعاهدة ـ التي على كل الأحوال التزمت بها الولايات المتحدة طواعية طيلة 17 عاماً ـ كوريا الشمالية إلى التوقف عن نهجها الراهن، ودفع إيران إلى التخلي عن سعيها لصنع أسلحة نووية؟.

أما القضية الكبرى الأخرى التي يبدي أوباما تجاهها حماسا بالغا، فهي استئناف المحادثات مع روسيا، ما يعد أمراً لا طائل من ورائه مطلقاً، فحتى بعد تقليص الترسانة النووية لدى الجانبين بمقدار النصف، سيبقى بمقدور أي منهما إحداث تدمير هائل.

وأنا لست ضد تقديم العطايا والمنح في العلاقات الدولية، ولكن من الجيد أن نرى شيئًا في المقابل. لقد كان أوباما في حالة المنح وتقديم العطايا في أوروبا، وفيما كان غوردون براون يحاول تشغيل مشغلات الأقراص المدمجة (الدي في دي)، وكانت الملكة تهتز طربًا لجهاز الـ«آي بود»الجديد الخاص بها، كانت باقي الدول الأوروبية تشعر بحالة من الاشمئزاز من هدية أوباما.

لقد جاء أوباما وهو يحمل سلة ملؤها الأسف والحسرة. وعلى اختلاف درجات المباشرة وعدم المباشرة، أشار أوباما إلى شعبه بالغطرسة، وغض الطرف، والتهكم، والإبادة الجماعية، والتعذيب، وبهيروشيما، وغوانتانامو، وقلة احترام العالم الإسلامي.

ولكن على ماذا حصل في النهاية مقابل كل هذا التشويه المبالغ فيه لسمعة بلاده؟. لقد كان يرغب في المزيد من قوات حلف الناتو في أفغانستان، لتضاهي الزيادة الأميركية البالغ قوامها 17,000 جندي، إلا أنه في النهاية حاز على الرفض بصفاقة. وأراد المزيد من الإنفاق على خطة المحفزات من أوروبا، لكنه عاد خالي الوفاض.

وبخصوص روسيا، لم يحصل على أي مساعدة تجاه إيران. أما الصين، فاعترضت طريق أي عمل يقوم به حيال كوريا الشمالية.

وما الذي حصل عليه مقابل غوانتانامو؟. فرنسا وحدها - البالغ تعدادها سكانها 64 مليون نسمة - ستستضيف معتقلاً واحدًا.. واحدًا فقط!. وأكدت الحكومة النمساوية أنها لن تستضيف أي معتقل، حيث أوضحت وزيرة الداخلية ماريا فيكتر - بمنطق ألماني معصوم من الخطأ - إن لم يكونوا خطرين، فلم لا تبقوا عليهم في أميركا؟، (في إشارة إلى المعتقلين).

وعندما تسخر منك النمسا، فأنت تقضي أسبوعًا قاسيًا. ومع ذلك، فمن يمكنه أن يلوم فرو فيكتر، على اعتبار الازدراء الذي أظهره أوباما لبلاده على أرض أجنبية، وتمثيله دور الملك الفيلسوف الذي يحوم حول النزاع، متوسطًا بين بلاده المرتدة الخارجة، وعالم مرحب ودافئ من ناحية أخرى؟.

وبعد هذا كله، يظهر أوباما - وليس أي زعيم حسود آخر مُعادٍ لأميركا - ليشير برضا كامل إلى أن النظام المالي الجديد يتم صياغته في يومنا هذا من قبل 20 دولة، بدلاً من «أن يجلس روزفلت وتشرشل وحدهما في غرفة، وأمامهما البراندي». ثم عاد وأضاف «ولكن، هذا ليس العالم الذي نعيش فيه، ولا يجب أن يكون كذلك».

إنه لشيء عرضي غريب بالنسبة لزعيم عالمي أن يحتفي بأفول نجم بلاده. ومع بضع جولات إضافية أخرى مثل هذه عالميًا، سيكون أمام أوباما المزيد من التهاوي الذي يمكنه الاحتفاء به.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ («الشرق الأوسط»)