غالية

TT

اكتشفت أن هناك قاسما مشتركا يجمع بين الكلاب والأطفال، وهو (حب الاستطلاع).

فقلما ومن النادر أن يتلاقى طفلان على رصيف الشارع، وكل واحد مع أهله، إلا وكل واحد منهما لا بد وأن ينظر للآخر، أو يمد يده، أو يستفزه، أو يضحك، أو يمد لسانه له، ولا يلفت نظره بقية الكبار إطلاقا.

ولا أنسى أنني في يوم من الأيام كنت أسير في الشارع وأمامي امرأة تدفع طفلها بـ«عربية»، وقابلتها صديقة لها تدفع طفلها بـ«عربية» أيضا، فوقفتا برهة للسلام على بعضهما، فتفاجأت بأحد الطفلين تمتد يده (لمصاصة) الآخر و«ينتشها» من فمه ويضعها في فمه هو، فانفجر الطفل المعتدى عليه بالبكاء، فما كان من أم المعتدي إلا أن تنزع من فمه المصاصة التي استولى عليها، فانفجر هو كذلك في نوبة بكاء، وكانت (مناحة) تجمع الناس حولها، وأخذت أضحك لأنني شاهدت الحادثة من أولها إلى آخرها، وعرفت ساعتها كيف تبدأ اعتداءات الإنسان على أخيه الإنسان، ابتداء (بالمصاصة)، وانتهاء باحتلال الأرض والتدمير (!!)

أما بالنسبة للكلاب فإنه أيضا من النادر أن يواجه كلب كلبا آخر، ويكون كلاهما مربوطا بحزام من رقبته ومع صاحبه، إلا ويتوقف كلاهما في وجه الآخر، إما (يشمشمه)، أو ينبح في وجهه، أو يهز له ذيله، (وهز الذيل) دائما يكون من طرف الأنثى.

ومن قراءاتي في سلوك الكلاب أن أحدهم كتب عن تجربته يقول: «ذات أمسية عاد كلبنا الكبير (بال) وهو يعرج عرجا شديدا، فغسلنا يده الجريحة وطهرناها وربطناها، وظلت أعيننا ترقبه وهو يمشي في عرج إلى غرفة الجلوس، وتمدد أمام المدفئة، وظل على هذه الحالة إلى اليوم التالي، فخشينا أن تتصلب يده، لهذا أخرجته وهو يتمايل وجلس حزينا أمام المنزل، ودخلت. وبعد ربع ساعة نظرت من النافذة فلم أجده في مكانه، غير أنني عندما نظرت بعيدا إذا به يجري ويتواثب في نشاط مع كلبينا الآخرين، فسررت لذلك وخرجت مسرعا، وعندما لمحني قادما جمد في مكانه وتدلى ذيله ببطء بين رجليه، ورفع يده المجروحة مستثيرا عاطفتي، متقمصا دور الشهيد».

عندما قرأت هذه الحادثة خطرت على بالي رأسا طفلة اسمها (غالية)، وهي ابنة العاملة المنزلية، وعمرها لا يزيد عن سنتين ونصف، وهي طفلة ذكية وحلوة وشقية وخبيثة في نفس الوقت، وهي تذهب كل صباح إلى دار الحضانة وتعود ظهرا. وفي أحد الأيام عادت وركبتها مجروحة من جراء السقوط بسبب الشيطنة، وما إن دخلت وشاهدتني حتى أرادت أن تستدر شفقتي، فبدأت تعرج كأي عجوز وتتمسك بحواف الأشياء خوفا من الوقوع، واستمرت على هذا الحال طوال اليوم، وفي صباح اليوم التالي رفضت الذهاب إلى الحضانة على أساس أنها مجروحة ومريضة، وهذا ما حصل، وبعد عدة ساعات لمحتها وهي تنطلق كالسهم من حجرة إلى أخرى، وتتقافز فوق ألعابها، وعندما حانت منها التفاتة وشاهدتني إذا بها (بقدرة قادر) تتساند على الحائط وتمشي مرتجفة ببطء وهي تتصنع العرج.

ولكن هل تصدقون: إن أجمل ما في الكلاب والأطفال هي براءتهم الممزوجة بقليل من الخبث أحيانا، فالبراءة دون خبث لا طعم لها، والخبث دون براءة مصيبة المصائب.

[email protected]