الفتح العربي الإسلامي.. (قوافل تحرير وتنوير وتعمير)

TT

هذا المقال (مداخلة) في مطارحة فكرية تاريخية جرت بين الأستاذ أنيس منصور وبين قارئ سعودي محب لمصر (ويظهر أنه قارئ كبير ومثقف وضليع في التاريخ السعودي بوجه خاص، والتاريخ العربي الإسلامي بوجه عام).. ولقد عَرَضَت المطارحة لموضوعات عديدة، نصطفي منها موضوعين اثنين نحسب أنهما من أجدر الموضوعات بالتجلية والبسط والتأصيل:

1 ـ موضوع حكم آل سعود في الدرعية، وحملة إبراهيم باشا التي استهدفت إسقاط نظام الحكم السعودي.

2 ـ موضوع الفتح العربي الإسلامي لمصر، والنظرة الخاطئة أو غير العلمية إلى هذا الفتح.

أولا: قال القارئ السعودي المحب لمصر: «أنت يا أستاذ أنيس لمّا تجولت في الدرعية رأيت ما يراه البصر من هدم المباني، ودمار العمران، ولم يخطر ببالك أن الهدم الحقيقي كان موجها (ضد الحكم) الذي سكن الدرعية، وضد كيان الدولة التي نشأت فيها».. وليس في هذه الفقرة ما يقلل من خطورة هدم العمران، إذ هو نوع من الإفساد في الأرض بكل توكيد. إنما أراد القارئ السعودي من هذه الفقرة: تكثيف الضوء، وتركيز الذهن على (حقيقة) تغيب عن الكثيرين: حقيقة أن هدف الحملة هو (تدمير طبيعة الكيان السعودي وإزالة خصائصه، وهي طبيعة وخصائص (إسلامية) على مستوى الحكم والدولة. فقرائن الأحوال العامة في العالم العربي والعالم الإسلامي كانت تشير ـ في تلك الحقبة ـ إلى (التملص) من الإسلام على مستوى الحكم، ربما بسبب (النفور) من تخلف الحكم العثماني في آخر أيامه، أو بسبب أن الغرب كان مصمما على (تغريب) العالم الإسلامي واستعماره بقصد تحريره وتمدينه!!.. أو لأسباب أخرى، قد يتطلب استقراؤها كتابا كاملا.. في تلك الحقبة ظهر الكيان السعودي ذو الصبغة الإسلامية الواضحة وكأنه (سباحة ضد التيار)، ومن هنا، كانت حملات مناوأته واجتثاثه.. ولو اختار السعوديون ـ يومئذ ـ خيارا آخر غير الإسلام، لما جوبه بتلك العداوات والحملات.

وظاهرة الحملات على السعوديين ـ بسبب خيارهم الإسلامي ـ لم تكن محصورة في تلك الحقبة، بل هي ظاهرة مستمرة إلى يوم الناس هذا، بدليل أن الحملات الإعلامية الفكرية المعادية في أيامنا هذه تنصب على (إسلامية) المملكة، سواء تمثلت هذه الإسلامية في طبيعة نظام الحكم، أو في القضاء، أو في مناهج التعليم، أو في القيم الاجتماعية والمحافظة عليها (هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا).

وهي ظاهرة، أو اتجاه، أو سلوك فكري وسياسي وإيدلوجي قديم نبأنا القرآن به، إذ قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا».. فالرضى ـ هاهنا ـ أو الخلة (أي الصداقة) مشروطة بترك الإسلام، واختيار غيره من المناهج والنظم. وبتحقيق هذين الشرطين: تنشأ الصداقة والمودة!، ولكن هيهات.. هيهات.. هيهات.. ونصعّد الجدل فنقول: إن ولاة الأمر في السعودية لو أعلنوا الآن تخليهم عن الإسلام في الحكم والدولة، لتحول الذم والهجاء إلى مدح وثناء في الميادين الثقافية والفكرية والسياسية والإعلامية.. ويمكن للقارئ ـ هاهنا ـ أن يعيد تلاوة الآية الآنفة: «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا».. ولكن.. هيهات.. هيهات.. هيهات أيضا.

ثانيا: موضوع الفتح العربي الإسلامي لمصر.. قال القارئ السعودي ـ ردا على من غمز هذا الفتح ـ: «فهل يستوي هذا في نظرك (أي الحملات العسكرية التسلطية) مع الفتح الإسلامي لمصر وتحرير أرضها وأهلها من الاحتلال الروماني الذي دام عقودا؟! أليس ـ كما تعلمون ويعلم الناس ـ أن أهل مصر، وبرغبة في الحرية، مدّوا يد المساعدة لعمرو بن العاص ومن معه لبلوغ شريعة الإسلام برسالتها في ربوع مصر ثم ما وراءها؟.. وأنت اليوم ثمرة من ثمرات هذا الفتح المبين. فلم يتغير دين المصريين بالقهر ولا بالسيف، بل عن رضا بالإسلام وسماحته، وعن طواعية تامة، وليست دعوى تغيير اللغة بأكثر من دعابة في المقال يا أستاذ أنيس. فالثابت تاريخيا هجرات لبعض العرب إلى مصر لأسباب كثيرة، أهمها الجدب الذي ينتاب الجزيرة أحيانا من قبل الفتح، فشاعت لغتهم ـ ولو في حدود ـ، وبهذه اللغة كان يتم التبادل التجاري، وبها كتب الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته إلى المقوقس عظيم القبط في مصر، بغير حاجة إلى ترجمان. والعبرة بالثمرات دائما، فهذه هي مصر التي أحياها دين الإسلام ولغته، وستظل قلبا نابضا للعروبة، فكما احتضنت الجامع الأزهر منارة للعلوم الشرعية، وحصنا للغة العربية على مدى ألف عام، تحتضن الجامعة العربية اليوم. وهذان رابطان من أجمع الروابط في جمع الأمة الإسلامية والأمة العربية».

ونحن نؤيد مطارحة هذا القارئ السعودي اليقظ والحصيف، إذ هي مطارحة حق وأمانة وصدق: من حيث التحقيق والتوثيق التاريخي، ومن حيث أنها دفاع عقلاني شريف وحر عن تاريخنا العربي الإسلامي الذي انطلقت قوافله (التنويرية) من جزيرة العرب، فكانت بحق قوافل معرفة وتحرير وتنوير وسلام: على العالم كله، بما في ذلك مصر الشقيقة.

إن التاريخ المنصف والموثق، يعزز ما ورد في رسالة القارئ السعودي:

1 ـ البروفيسور حسن إبراهيم حسن مؤرخ مصري كبير، ومحقق راسخ القدم في التوثيق والتحقيق. ولقد ألف كتابا موسوعيا اسمه (تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي)، طبعت منه عشرات الطبعات، مما يدل على أن الأوساط العلمية والثقافية تلقته بالقبول والثقة فانتشر ـ من ثم ـ.. يقول الدكتور حسن إبراهيم في كتابه المذكور: «لكي نقف على مبلغ السهولة التي تم بها فتح مصر على أيدي العرب، ينبغي أن نتعرف حالة هذه البلاد من الناحيتين الدينية والسياسية.. كانت مصر إحدى الولايات الرومانية.. واستولى الرومان على مصر سنة 30 ق.م، فجعل أوغسطس قيصر روما هذه البلاد مخزنا يمد روما بحاجتها من الغلال، وبذلك انحطت درجة العلم والعرفان فيها، وأغلقت أبواب المناصب العالية أمام المصريين، وزادت الضرائب في عهد الرومان زيادة كبيرة حتى شملت ـ كما يقول المؤرخ ملن ـ الأشخاص والأشياء. فكانت تجبى على الرؤوس والصناعات، وعلى الماشية والأراضي، ولم تكن مقصورة على أنواع خاصة من البضائع، بل كانت تجبى على المارة رجالا ونساء، تجارا وغير تجار، ومن صناع السفن، ومن زوجات الجنود، وعلى أثاث المنازل، ولم تقتصر تلك الضرائب على الأحياء، بل تعدتها إلى الأموات، حتى أنه كان لا يسمح بدفن الموتى إلا بعد دفع ضريبة معينة.. وقد أدت هذه الأعباء إلى ضعف المصريين وخمولهم، وقد ازداد سخطهم على الحكم الروماني، كما كان للاختلافات الدينية نتائج لا يستهان بها (كان المصريون يدينون بالمذهب الأورثوذكسي وكانت روما تدين بالمذهب الكاثوليكي)، لذلك لا نعجب إذا أصبح المصريون يتطلعون إلى دولة تخلصهم من هذه الحالة السيئة، وترفع عنهم تلك المظالم، وقد سرهم ما علموه من استيلاء العرب على الشام، كما سرهم ما سمعوه من حسن سيرتهم في البلاد التي فتحوها، وتمنوا أن يكون خلاصهم من ظلم الرومان على يد المسلمين».

2 ـ يقول الزعيم الهندي جواهر لال نهرو ـ في كتابه لمحات من تاريخ العالم ـ: «لقد تعب الناس من النظام القديم، وتاقوا إلى نظام جديد، فكان الإسلام فرصتهم الذهبية، لأنه أصلح الكثير من أحوالهم ورفع عنهم كابوس الضيم والظلم. وقد سلّمت لهم مصر بسهولة، لأنها كانت قد قاست كثيرا من استبداد الإمبراطورية الرومانية ومن الحروب الطائفية».

بقي حقائق ثلاث خليقة أن تظفر بالسطور الباقية من المقال:

أـ الحقيقة الأولى: أن الفتح الإسلامي ـ لأي بلد ـ لم يعرف (الإكراه في الدين). فالإكراه محرم بنص محكم في سورة البقرة.. والله تعالى قادر على أن يجمع الناس جميعا على ملة واحدة بالقهر، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك: لا كونيا ولا دينيا. فالإكراه ـ من هنا ـ مروق من سنن الله الكونية والدينية.

ب ـ الحقيقة الثانية: أن الإسلام لا يسمح بمحو اللغات الأخرى للأمم (القبطية أو غيرها) ذلك أن (تعدد اللغات) إنما هو آية من آيات الله الدالة على وجوده ـ تقدس في علاه ـ: لا تُلغى ولا تُمحى: «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم».

ج ـ الحقيقة الثالثة: أن الإسلام دين تنوير ومعرفة لا يصادر تراث الأمم الحضاري ولا يدمره، والمسلمون لم يفعلوا ذلك لا مع التراث الفينيقي، ولا مع التراث الساساني الفارسي، ولا مع التراث القبطي أو المصري، بدليل أن الأهرامات المصرية ـ مثلا ـ بقيت و لم تدمر أو تلغى.. ولهذا (الإبقاء) على التراث الحضاري للأمم سند منهجي من القرآن. بمعنى أن القرآن دعا إلى النظر في (آثار) السابقين، والتأمل والتدبر العقلي فيها.. ومن ذلك قوله عز وجل : «وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم»، وقوله جل ثناؤه: «أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى».