شر القوائم ما يضحك

TT

عندما تفلس أي حكومة سياسيا وتنخفض شعبيتها، فإما تكتشف «عدوا خارجيا» أو تضخم من حدث كبير يشغل الرأي العام عن قصورها، وهو ما تكرر منذ عهد قيصر روما إلى عهد رئيس الحكومة العمالية غوردون براون في بريطانيا. الملاحظة لم تفت المذيع اليميني (إلى حد الرجعية) الأمريكي مايكل ألان واينر، والمعروف لمستمعيه بمايك سافيج.

في برنامجه المسموع للملايين يدعو سافيج مستمعيه إلى عدم زيارة إنجلترا ومقاطعة البضائع الإنجليزية، وهدد برفع قضية ضد وزيرة داخلية بريطانيا جاكلين سميث، لأنها «شوهت سمعته» بوضع اسمه في قائمة «تضم إرهابيين وقتلة».

والقائمة التي أغضبت المستر سافيج مكونة من 22 شخصا ـ أعلنت منهم أسماء 16 فقط ـ غير مرغوب وجودهم في الأمم المتحدة «لتهديدهم الأمن القومي» وتشكيلهم خطورة على السلام الاجتماعي. والقائمة جزء من إجابة غير مكتملة عن سؤال وجه لوزيرة الداخلية سميث في مجلس العموم في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن الإجراءات الوقائية التي تتخذها الحكومة لحماية البلاد من أخطار الإرهاب.

وبعد صمت خمسة أشهر، تمخضت وزارة الداخلية فولدت قائمة كاد الشعب يموت ضحكا من بليتها. فإذا كانت هذه القائمة تمثل ذروة جهود الوزارة التي ندفع لها قسطا معتبرا من ضرائبنا لحمايتنا من أكبر خطر يهدد البشرية اليوم، فمن الأكثر أمانا أن نبقى سجناء منازلنا. فكيف نطمأن لحمايتنا من الإرهاب، بإجراء يجعل أم الديمقراطيات أضحوكة للعالم؟.

ولنزع فتيل السخرية من القائمة، قالت مصادر الداخلية إنها أبقت ستة أسماء سرا «لأسباب أمنية» لم يشأ المتحدث باسم الداخلية وزميله المتحدث باسم رئيس الوزراء أن يخبرانا بطبيعة هذه الأسباب الأمنية، وخمن بعضنا أنه ربما لمفاجأة الأشقياء الذين يتربصون بنا شرا. فتركهم «على عماهم» بنطق «فهلوة» ابن البلد فيأتون «برجليهم» إلى أي مطار فيقبض عليهم ويقفون أمام القضاء في محكمة إنجليزية، بينما انفجر البعض الآخر في ضحك مسيل للدموع.

وأمام أسـئلة سريعة التتابع في اللقاء اليومي مع المتحدث الرسمي لداوننج ستريت، تكررت إجاباته بإحالتنا لوزارة الداخلية. والرجل معذور لتعذر فهم منطق معدي القائمة. فهي تضم الداعية المصري الشيخ صفوت حجازي (الذي منعته وزارة الأوقاف المصرية لفترة من الخطابة العلنية لخطبه التحريضية. ومثل سافيج الأمريكي، تعجب الشيخ حجازي من منعه من دخول بلد لا ينوي زيارته أصلا. وقال لـ«لبي بي سي» إنه سيحذو حذو سافيج ويقاضي وزيرة الداخلية البريطانية.

وعجز المتحدث باسم الحكومة عن تقديم إجابة منطقية حول إدراج يونس الأسطل عضو المجلس الفلسطيني على القائمة بالذات من بين قادة حماس إذا كانت الحكومة البريطانية، ضمن حكومات الاتحاد الأوروبي ونصف حكومات العالم، لا تتعامل مع حماس أصلا؛ بل ويدرجها البعض، كواشنطن مثلا، على قائمة الإرهاب (وهذا واقع لا رأيا شخصيا) وبالتالي لن تمنح بلدان كبريطانيا أي قيادي في حماس تأشيرة دخول أصلا، فأي جديد يضيفه وضع اسم الأسطل على القائمة؟

وضمت القائمة من المسلمين أمير صديقي، وعبد الله قدري الأهدل، وسمير قنطار، ووجدي عبد الحميد غنيم، وكلهم من المحرضين على قتل أناس آخرين علنا، وهو أمر كريه وغير مقبول أخلاقيا؛ لكن أي من هؤلاء لم يخرق قانونا بريطانيّا أو يرتكب مخالفة على أرض بريطانية.

وضمت القائمة روس وألمان من غير المسلمين، بعضهم من النازيين الجدد وبعضهم مثل المذيع سافيج، ومسيحيين أصوليين كالقس فريدريك والدون وابنته شيرلي. والأخيران مثل المذيع مايك، أصوليون في تفسيرهم للمسيحية بتكفير المثليين جنسيا وتوعدهم بجهنم وبئس المصير.

ودعوتهم فاسدة الذوق، وربما مكروهة أخلاقيا؛ لكن لم يفتِ القس والدون بإهدار دمهم ولم تحرض ابنته أحدا على مهاجمة المثليين جنسيا، ولم يحرضا، وكذلك سافيج، أحدا على قتل أي شخص يخالفهم العقيدة ـ بعكس الفتاوى الصادرة عن أئمة ودعاة الشر، كأبي قتادة وأبي حمزة المصري، والأخير يقضي عقوبة في السجن لأن تحريضه كان توجيها مباشرا لحفنة من الشباب باختطاف وقتل سياح في اليمن. وقد أثبتت محكمة، بقضاة ومحلفين، التهم على أبي حمزة المصري بما لا يدع مجالا للشك.

لكن من الصعب أن تجد محكمة في المملكة المتحدة تدين المذيع الأمريكي أو القس وابنته، هذا إذا وجدت النيابة الإنجليزية تهمة توجه لهم أصلا.

وليس من مصلحة المسلمين، حتى الذين يشمئزون من دعاة الكراهية من مسلمين وغير مسلمين، أن توجد قوائم منع اعتباطية كهذه.

وبالفعل تعالت أصوات تقول إن ضم غير مسلمين للقائمة تم بصورة اعتباطية عشوائية لذر الرماد في العيون وإرضاء للمسلمين الذين سيتهمون الحكومة باضطهادهم لو اقتصرت عليهم. وكان نواب مجلس العموم وأعضاء مجلس اللوردات من المسلمين اعترضوا العام الماضي على قرار وزيرة الداخلية بمنع نائب هولندي من دخول البلاد بحجة أنه أنتج فيلما قصيرا اعتبره بعض المسلمين مهينا لدينهم. وعبر اللورد أحمد ـ أكبر أعضاء اللوردات المسلمين سنا ـ وقتها عن استيائه من قرار وزيرة الداخلية، لأن في ذلك انتهاك لأهم مبادئ الديمقراطية وهو حرية التعبير.

فإما أن بقدرتنا دحض الأفكار والفلسفات السخيفة بذهنية أقوى ومنطق أكثر استقامة من المنطق المعوج، أو أن صاحب الدعوة التي لا تعجبنا يبلغ من السفاهة والتفاهة حد تجاهله فتموت أفكاره بمجرد أن يتعب من الكلام ولا يتبعه أحد.

أما منعه فيعطيه شهرة لا يستحقها.

فمثلا لم يسمع في بريطانيا بالشيخ صفوت حجازي سوى قلة تعد على أصابع اليد الواحدة، لكن قائمة وزيرة الداخلية المضحكة، جعلت الـ«بي بي سي» تمنحه منبرا مسموعا في كل بيت.

النقطة الأخرى بالغة الخطورة أن حكومة غوردون براون مستمرة في خطة العمال اليسارية بسحق الفرد أمام الدولة والإجهاز على الديمقراطية بحجة محاربة الإرهاب.

فالديمقراطية تعني حكم القانون، وتعني التفريق بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضاء.

لكن بإصدارها مثل هذه القوائم، تغير وزيرة الداخلية، كسلطة تنفيذية، على السلطتين الأخريين، التشريعية والقضائية، إذ جعلت من وزارتها مشرعا وقاضيا.

فالإرهاب الذي نحن بصدده، يستهدف الديمقراطية، لأن قوتها تعني فناءه، والديمقراطية تعني المساواة تحت القانون بلا استثناءات.

وبدلا من القوائم الهزلية، فلتدرس الداخلية كل حالة وحدها، إذا قدم أحدهم طلب تأشيرة دخول، وعندها يقف محامي وزارة الداخلية مع محامي الشخص المرفوض دخوله البلاد سواسية أمام هيئة قضائية.

فقوائم الممنوعين من مغادرة بلد أو الدخول إليه، هي سمة ديكتاتوريات العالم الثالث والانقلابات العسكرية الفاشية، ولا تعرفها الديمقراطيات الأصيلة.