الحكاية فيها إنّ!

TT

يرجع أصل «الحكاية فيها إنّ» إلى رواية طريفة مصدرها مدينة حلب، فلقد هرب رجل اسمه علي بن منقذ من المدينة خشية أن يبطش به حاكمها محمود بن مرداس لخلاف جرى بينهما، فأوعز حاكم حلب إلى كاتبه أن يكتب إلى ابن منقذ يطمئنه لكي يعود، فنفذ الكاتب أمر الحاكم، وكتب رسالة يحثه على العودة، وأورد في نهايتها عبارة «إنّ شاء الله تعالى» بتشديد النون، فأدرك ابن منقذ أن الكاتب يحذره حينما شدد حرف النون، ويذكره بقول الله تعالى: «إنّ الملأ يأتمرون بك»، فرد ابن منقذ على رسالة الحاكم برسالة عادية يشكره على تلطفه، وتسامحه، وعفوه، وختمها بعبارة: «إنّا الخادم المقر بالانعام»، ففطن الكاتب إلى أن ابن منقذ يطلب منه التنبه إلى قوله تعالى «إنّا لن ندخلها ما داموا فيها»، وعلم الكاتب أن ابن منقذ لن يعود إلى حلب في ظل وجود حاكمها محمود بن مرداس.

والحكاية من «ساسها لمنقع رأسها» تبدو حبكة من حبكات الحكايات التراثية الخارقة، فلا كاتب حاكم حلب، ولا ابن منقذ، ولا أكبر جهاز حديث لفك «الشفرة» يمكنه أن يصل إلى تعقيدات لغز «إنّ» في تلك الرسالتين!

وبقدر ما تحمل هذه الـ«إنّ» من التحذير، والشك، والريبة نجد في مقابلها مفردة أخرى دخلت معجم التراث، وتقف على الضد منها، وهي كلمة «طز» ذات الأصل التركي، التي تعني الملح، وكان تجار القوافل إذا ما مروا بالمنافذ على نقاط الجمارك تعالت أصواتهم بكلمة «طز»، فيفسحون لهم الدرب، ويدعونهم يمضون في طريقهم، فالملح السلعة الوحيدة المعفية من الرسوم إبان الدولة العثمانية، لكن كلمة «طز» في المصطلح الشعبي العربي تجاوزت معنى الملح، وغدت تعبيرا عن اللامبالاة، والاحتقار، وتقليل الشأن.

وتأرجحت سيكولوجية العربي منذ قرون بين أقصى درجات الشك، والريبة، والتحفظ، التي يختصرها بعبارة «الحكاية فيها إنّ»، وبين أسوأ درجات اللامبالاة، والإهمال، وتقليل شأن الأمور، التي يعبر عنها بكلمة «طز»، وتطور الأمر من الحالة الفردية إلى الظاهرة السياسية، فالخارطة السياسية في العالم العربي ـ في الغالب ـ ما بين سياسة شديدة المحافظة، والانغلاق، والحذر، وأخرى مغامرة، متهورة، وفوضوية، والأولى تضيع في ترددها الفرص، والثانية تخسر في اندفاعها الحكمة.

وبين «إنّ»، و«طز» مساحات شاسعة يفترض أن يعمرها العقلاء.

[email protected]