الرحلة القبرصية

TT

كان الكاتب أناتول فرانس يقول في «تأملاته» إن البائع الذي يشتري منه السمك لا يتحدث إلا عن الكوارث والمصائب والجرائم، وإن خادمته ميلاني تمر كل يوم على صاحبات الدكاكين لتتبادل معهن الأحاديث، وهي دائما أحاديث حول الأسقام والأمراض وأوصافها والجديد منها. وكانت لنا نسيبة، لعلها من سلالة ميلاني، فكلما صادفتها، أي كلما أخفقت في تجنبها، قرأت عليك سلسلة الوفيات في الصحف وأسماء المرضى في المستشفيات، ولا تتوقف طويلا إلا عند الذين دخلوا دون خروج. وذات مرة خلال الحرب اللبنانية حلت بي الكارثة واشتد الخطب عندما رأيتها على السفينة التي أنا عليها. وقبل أن أستجمع طاقتي لألقي عليها التحية، صرخت من بعيد وعلى مسمع من الركاب والقبطان والملاحين: قولك منغرق؟

كانت الرحلة من بيروت إلى قبرص، وكل ما حولنا كئيب، والناس مهاجرة إلى عالم لا تعرفه. وبعد بيروت بقليل بدأ بعض النسوة يبكي حزن الفراق. وتأملت نسيبتي فرأيتها تتأملهن وتضحك في فرح عجيب. ثم ارتفع الموج وعلا صراخ البعض وعلت ضحكتها وهتفت بي بكل خفة دم: شو؟ بلشنا نغرق؟

عبثا حاولت أن أدير وجهي إلى الناحية الأخرى، وأن أتظاهر بأنني لا أعرفها. وفجأة صرخت من جديد بصوت عال: «يا صبي، لا تكون هيدي التيتانيك». وضحكت، لوحدها، في صوت عال، فاعتذرت أحاول الذهاب إلى غرفتي، فارتفعت نسبة الخفة في دمها: «لوين رايح، بدك أغرق وحدي».

ولاحظت أن شابا يراقبها والشرر في عينيه، فقلت في نفسي لعله يريد أن يرميها في البحر. والأرجح أن ذلك ما خطر له، لكننا كنا قد دخلنا المياه الإقليمية القبرصية، فعدل عن مسعاه النبيل خوف أن يساء فهمه.

عندما وصلنا إلى ليماسول تذكرت النسيبة العزيزة فجأة شيئا مهما: «إلى أين مكمل طريقك؟». كنا يومها نسكن في نيقوسيا، لكنني خفت أن أخبرها فتقرر أن تمضي بضعة أسابيع من الراحة، فقلت إنني ذاهب إلى لندن، فضربت يدا بيد من الطرب وصاحت: «وأنا كمان». فقلت لها «ولكن أنا مسافر على طريق باريس لأن التذكرة أرخص».

وأعربت عن أسفها العميق: «خسارة كنا تسلينا سوا». وأخبرتني عن برنامجها القصير في لندن: مسرح أغاثا كريستي وبعض أفلام الرعب. ودعوت لها بالتوفيق.