بروتوكول

TT

فجأة أصبحت إنفلونزا الخنازير هي الشغل الشاغل للعالم كله. فلا تكاد تخلو نشرة إخبارية متلفزة من آخر الأخبار في حملات الإنقاذ من الخطر الزاحف من المكسيك إلى إسبانيا وإسرائيل وما بينهما. حتى في مصر أصبحت إنفلونزا الخنازير هي الشغل الشاغل للإعلاميين والوزراء.. عجبي. لم يدهشني أن يمر القصف الجوي الأميركي الأخير على القرى الأفغانية وحصد أرواح مائة شخص مر الكرام في ظل التركيز على عدد المشتبه في إصابتهم بفيروس الخنازير.

والذين لا يعرفون قواعد البروتوكول الإعلامي الحديث في زمن العولمة لا يدركون أن إغراق المشاهد بأخبار عن إنفلونزا الخنازير لا بد أن يلهيه عن طرح أسئلة أخرى عن مشكلات أخرى لا يجب السكوت عنها.

الانفتاح الإعلامي في العالم يفرض أحكاما جديدة. وأهم تلك الأحكام هي أن توصلك الآلة الإعلامية إلى حالة أن تكتفي بما يراد لك أن تعرفه وأن تكف عن النكش في أسباب المشاكل والأزمات الأخرى.

في نهايات القرن العشرين سمعنا بجنون البقر وسمعنا طرفا من الخناقات الدولية الخاصة باتفاقيات تصدير واستيراد اللحوم والآراء الخاصة بالربح والخسارة والتي أدت إلى تسمين الأبقار بأعلاف رخيصة ثم حقنها بمضادات حيوية وهورمونات قوية لكي تسمن بسرعة فيثقل وزنها ويزيد ثمنها وتقاوم الفيروسات. وبعد جنون البقر جاءت إنفلونزا الطيور ولم يجرؤ أحد على التساؤل عن أسباب هذا الهجوم الشرس. والغريب أن الفترات الزمنية بين هجوم وآخر أصبحت قصيرة. وعلى الرغم من ذلك لم يتساءل أحد عن الأسباب. ولأن المزارع الحيوانية لا تتعرض لمساءلة تتعارض مع قدرتها على الربح فيما يختص بوسائل التسمين والتصدير، لا يعلم المستهلك أن أكياس اللحم الذي يشتريه نظيفا مغلفا بالسلوفان من السوبرماركت هي أجزاء من حيوانات تعرضت لأبشع أنواع القسوة. بعضها لا يري النور ويتحرك في أقفاص مزدحمة، ويأكل بقايا إخوانه المذبوحين كالمخ والأمعاء، ويتوالد بأسلوب الإخصاب المخبري، ويسمن بسرعة فائقة، ويذبح للاستهلاك وجسمه يحمل كمية هائلة من الهورمون والمضادات الحيوية. ونتج عن ذلك جنون البقر. وتطورت سلالات من الفيروسات التي تهاجم الطيور والخنازير إلى سلالات جديدة تنتقل إلى الإنسان.

ويظل الخطر كامنا في الزوايا انتظارا لفرصة هجوم جديد. بذلك يصبح إعدام الأبقار والدواجن والخنازير علاجا للظاهرة لا علاجا للظروف المسببة لها. ويظل الخطر كامنا في الزوايا استعدادا لهجوم جديد.

إذا نجوت من جنون البقر إنفلونزا الدجاج وتحاشيت السفر إلى المكسيك هربا من وباء الخنازير، فهل تأثرت حياتك بالأزمة الاقتصادية الراهنة أم لم تتأثر؟ وبينما أنت مشغول باستيعاب ما سببته الأزمة من غلاء المعيشة وبطالة الشباب وإفلاس المشروعات، هل لك أن تتساءل عن أسباب الأزمة؟ هل عرفت مهندسيها والذين انتفعوا من تفجرها؟ أم انك اكتفيت بما نشر إعلاميا بكثافة امتصت طاقاتك وحالت بينك وبين طرح الأسئلة التي يجب أن تطرحها؟

حين تعلم تشعر بالحزن والعجز وتلتزم الصمت لأن الأمر ليس بيدك. وتستمر الأحوال على ما هي عليه. وتتوالى الأزمات التي تؤثر على حياتك ولا تعرف مصدرها وأسبابها.

فماذا هو الحل إذن وقد عم الفساد في البر والبحر بما كسبت أيديهم؟ بعد تفكير على مهل، أفضل أن أكون في زمرة من يعلمون، لأن العلم نور وفي النور يمكن أن ترى الأفق البعيد.