أيها الناس: انتبهوا لـ(الخنازير)

TT

بمناسبة (إنفلونزا الخنازير)، كنت قبل أيام أسير في أحد (مولات) الرياض الراقية والمكتظة بالمتسوقين، وإذا بأحدهم (يتصرمح) بالسوق مخفيا نصف وجهه (بكمامة) خضراء، ولا تتصورون كيف أن المتسوقين كانوا يتحاشونه ويهربون منه، وكيف أن النساء يبعدن أطفالهن عنه، بل إن أحد الباعة رفض أن يتحدث معه ناهيك من أن يبيعه، وكأن الرجل مصاب فعلا بذلك المرض، ولا أخفي عليكم أنني أنا أيضا أسرعت الخطى مبتعدا عنه.

مع أنني الآن أعتقد أن ذلك المرض ما هو إلا (فقاعة) سوف تختفي مثلما اختفى (جنون البقر)، (وإنفلونزا الطيور) اللذان أرعبا العالم قبل حين.

إنني لا أقلل من خطورة ذلك، ولكن المبالغة الإعلامية (تزيد الطين بلة).

هناك أمراض شنيعة من العيار الثقيل ليس فيها أي (لعب) قد اجتاحت العالم وعاثت به دمارا، منها مثلا مرض (الكوليرا)، عندما حل بالجزيرة العربية، وقرى (نجد) على وجه الخصوص قبل سبعة عقود، وهلك من جراء ذلك بدون مبالغة ما لا يقل عن نصف السكان، حتى أن عائلات بأكملها قد انقرضت، والغريب أنهم أطلقوا على ذلك العام الرهيب (عام الرحمة).

أما أكبر كارثة وبائية هددت الجنس البشري وكادت أن تعصف به، فقد حصلت قبل ما يزيد على ستة قرون، وسمي (بالموت الأسود)، وذلك عندما اجتاح (الطاعون) العالم بأسره ابتداء من الصين إلى أيسلندا، مرورا بالهند وبلاد العرب وتركيا وأوروبا كلها، والغريب أن سكان البادية كانوا هم أقل الناس تضررا من هذا المرض، وقد يكون الهواء والشمس وتنقلهم من مكان إلى مكان هو الذي حصنهم من ذلك.

وكان أكثر المتضررين منه هم سكان المدن والقرى في أوروبا، وفي ذلك الوقت من العصور الوسطى كانت طرقات المدن تعج بالقاذورات والخنازير التي تتمرغ بالأوحال، وتتغذى مع الفئران على العفن، وكانت المنازل تمتلئ بالحشرات، والغرفة الواحدة يتكدس بها الأشخاص الذين لا يعرفون الاستحمام إلا نادرا، ولم يكن يفكر الواحد منهم في خلع ملابسه الصوفية الداخلية وغسلها إلا إذا اعتدل الجو وبدأ فصل الصيف.

ومما يدعو للعجب أنهم لم يعرفوا أن سبب ذلك الداء هو (الفئران)، حتى الأطباء منهم لم يعرفوا ذلك، وردوه إلى سخط من الله تعالى، وأنه أرسل عليهم هواء فاسدا من الصين، ولا يقضى عليه إلا باشتعال النيران، لهذا أشعلوا الحرائق في كل مكان.

إن ما أحدثته قنبلة (هيروشيما) الذرية من دمار في تلك المدينة يتواضع مع ما أحدثه ذلك المرض في كل مدينة أوروبية، إلى درجة أن الناس هربوا من منازلهم إلى الغابات والجبال، والموتى تكدسوا بالطرقات لا يجدون من يدفنهم، وحتى الأطباء رفضوا أن يعاينوا مرضاهم خوفا من العدوى، والآباء والأمهات فروا من أبنائهم المرضى، والأبناء فروا من آبائهم وأمهاتهم المرضى، بل إن رجال الدين رفضوا حتى الصلاة على الموتى خوفا من العدوى.

والمضحك أنهم في سويسرا اعتقدوا أن اليهود (المساكين) هم الذين تسببوا في ذلك بوضعهم السم في الآبار، وطاردوا اليهود في كل مكان وقتلوا منهم من قتلوا وأحرقوا منهم من أحرقوا.

المهم أن (ثلاثة أرباع) سكان أوروبا قضوا نحبهم في هذه الكارثة، ومثلما ظهر الوباء فجأة، كذلك انقشع فجأة، وتقول كتب التاريخ، إنه لم يمض على ذلك أكثر من عشر سنوات حتى ازداد عدد المواليد بشكل لم يسبق له مثيل، وتحسن عمل وأداء الناس، وبعدها بدأ (عصر النهضة) في أوروبا.

[email protected]