يقرأ ويكتب

TT

طلب مني صديقي النابه أن أقرأ عرضا لكتابي عن الإعلام العربي والمعنون في نسخته المترجمة للعربية بـ«حروب كلامية: الإعلام والسياسة في العالم العربي». قدم العرض واحد من (الكتاب) العرب، وبعد أن قرأت العرض الذي لم تكن له علاقة بما في الكتاب من طروحات جادة، اتصلت بصديقي النابه وقلت له: «على صاحبنا أن يستمر في الكتابة، إذ يبدو من الواضح جدا أنه لا يجيد القراءة».

المشكلة الرئيسية، كما تتراءى لي في العالم العربي، هو أنه لدينا كتاب كثيرون وليس لدينا قراء، فالذين يكتبون لا يقرأون والذين يجيدون القراءة لا يفضلون الكتابة أو يترفعون عن دخول حلبة خلت من المعايير في تمييز الغث من الثمين. لدينا ناس تكتب ولا تقرأ، والمطلوب من الشخص الذي يقدم نفسه كاتبا ألا يكتب فقط، وإنما «يقرأ ويكتب». وتلك هي المشكلة.

القراءة هي نوع من أنواع التجليات والفتوحات لو نجح الإنسان في تركيب الحروف والكلمات وفك رموزها. ويقال في الأساطير إن اثنين من الكهنة الشبان كانا يقرآن نصا دينيا مقدسا في الصحراء وقد بلغ منهما الجوع والعطش مبلغه، لكنهما كانا مستغرقين في القراءة في محاولة منهما لسبر أغوار النص وتركيب كلماته وحروفه تركيبا صحيحا، وفي واحدة من القراءات فتح الله عليهما، واستطاعا تركيب الكلمات والحروف وهما في أقصى حالة من الجوع والعطش في صحراء جرداء، فخلق الله لهما من الكلمات عجلا صغيرا وجرة ماء، فذبحا العجل وتعشيا به، وكان هذا بفضل القراءة لا فضل الكتابة.. هكذا تقول الأسطورة القديمة. عجل مطبوخ وجرة ماء بارد خرجتا من الحروف جزاء المجهود الجاد في القراءة. أما عندنا فالقراءة لا تجزي، بل الكتابة من دون قراءة هي سبيل بعض كتاب اليوم إلى الظهور والشهرة.

عندما تقرأ رأيا في الغرب مكتوبا في صحيفة فهو رأي يكتبه من قرأ كثيرا ولديه ما يقوله، وعندما تقرأ عرضا لكتاب تجد أن الكاتب يعرض إلى جوار هذا الكتاب لكتب أخرى البعض منها تناول الموضوع ذاته بمنهجية مختلفة والبعض الآخر تعرض لموضوعات مشابهة، كما قد يعرض لكتب تكون قد تناولت الموضوع من بعيد ولكنها تلقي بظلالها على جانب ما من موضوع النقاش. يحتاج، بلا شك، من يتصدى لنقد جاد لكتاب ما إلى قراءة أكثر من كتاب ليناقش كتابا واحدا، فلا الذي كتب ولا الذي انتقد هما أول من كتبوا ولا آخرهم، ولكن عندنا يظن بعض الذين يكتبون بأنهم أول من كتبوا وآخر من قرأوا.

القراءة لا الكتابة هي التي يجب أن تسيطر على أحاديثنا حول الصحافة والكتابة في العالم العربي، ورغم أننا نعقد مئات الملتقيات والمنتديات حول الإعلام، في قطر ودبي والقاهرة.. إلخ، إلا أننا نناقش كل شيء إلا القراءة.

سألني يوما أحد المستشرقين عن أفضل كاتب من حيث جمال الأسلوب في العالم العربي كي يتعلم منه، فجاء ردي مطولا، ففي البداية ليست لدينا مجلات أو صحف تحتفي بالأسلوب كجزء من العملية الإبداعية، ليس لدينا «النيويورك رفيو اوف بوكس»، وليس لدينا مجلة «جرانتا»، كما أنه ليس لدينا «النيويوركر»، أو «الأتلانتك منثلي» أو أي نوع من المجلات التي تسمح بفرز الموهوبين من غير الموهوبين. لدينا صفحات رأي ومجلة هنا أو هناك، كما أن دور النخبة المثقفة وقدرتها على الفرز باتت محدودة، ولا معايير هناك. الكل يكتب وليس ضروريا أن يكون الكاتب قارئا.

هذا لا ينفي أن لدينا كتاب أعمدة يتميزون بأسلوب رشيق، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أورد اسم الكاتبين أنيس منصور وسمير عطا الله من كتاب الأعمدة في العالم العربي، هناك آخرون بالطبع ولكنهم قلة، فقلما تجد مقالا لسمير عطا الله أو لأنيس منصور لا يذكر كتبا قرآها أو تجارب شخصية غزيرة مرا بها. واليوم لدينا ممن ليست لديهم تجارب شخصية أو من لم يقرأوا ويتصدرون واجهات الإعلام، في حين تتوارى القامات الصحفية أو الأدبية.

في غياب المعايير الحاكمة في البناء وتنظيم الشوارع، أو حتى تنظيم المرور، لا غرو أن يكون الأمر كذلك في الكتابة. لكي يكون للمقال معنى لا بد وأن يرقد الكاتب على الفكرة يوما أو يومين، كما ترقد الدجاجة على البيض، لكي يفقس المقال وتدب فيه الحياة. البيض المسلوق، أو المقال المسروق، لا يمكن أن يفقس أو أن ينتج حياة جديدة أو يحرك ماء راكدا. والمزعج أكثر في هذا الأمر، هو أن الدجاج الذي يرقد على البيض المسلوق «يكاكي» كثيرا، ويصدر أصواتا عالية، وفي عالم الزراعة، يسمون هذا النوع من الدجاج بـ«الفروجة الكاركة»، أي الفرخة التي لا تفقس بيضا ولا يتوقع منها أن تفقس في يوم من الأيام، لا فراخا ولا مقالات. ومع ذلك نسمع كل يوم ونقرأ كل يوم عن حفلات «الفروج الكارك». وعن جوائز لمقالات مسلوقة، وعن فروج يحيي فروجا، وهلم جرا.

ولا ينطبق هذا على كتابة المقالات الصحافية فقط، وإنما ينسحب ذلك على الإعلام المرئي أيضا. فكل الناس اليوم تبث «على الهوا» مباشرة. «الناس كلها بتبث، ومحدش بيقول للتاني بس كفاية بث». الناس كلها على الهواء، رجالا ونساء، بناتا وأولادا، موهوبين وغير موهوبين، فنانين وسياسيين وطباخين، كلهم في الهوا سوا. زاد الأمر عن حده في حالة البنات اللاتي على الهوا، لدرجة أنه بات علينا إعادة تعريف مصطلح «بنات الهوا». من لديهم شهوة النجومية وشبق الكلام هم النجوم اليوم. فالمذيعون يتحدثون مع مذيعين آخرين ويحاورونهم كنجوم، وكتاب يكتبون عن كتاب آخرين من دون معرفة، بقصد الظهور والشهرة فقط، الكل يريد أن يكتب والكل يريد أن يبث. فهل أصابنا مرض البث المباشر؟ نحتاج اليوم ليس إلى قانون البث المباشر، وإنما إلى قانون «البس» المباشر. بمعنى: «حد يقول للناس دي بس خلاص».

آن الأوان أن نعترف بأن لدينا أزمة كتابة وأزمة معايير. آن الأوان لمنتديات الإعلام والكتابة التي لا تهدأ في العواصم العربية وتصرف عليها الجهود والأموال، أن تناقش مادة الكتابة لا نجومها، فالتاريخ سيشهد يوما ما على أن الفترة التي نحياها اليوم هي فترة تدني الكتابة وانحطاطها، ليس لأن الناس لا تكتب ولكن لأن الذين يتصدون للكتابة ويدعون موهبتها لا يقرأون.

هناك بعض الجوائز في العالم العربي التي تحتفي بالإبداع والمبدعين ممن لديهم شيء يضيفونه إلى رصيد الإبداع والمعرفة، ولكنها قليلة إذا ما قورنت بالمكافآت التي تدفع في مهرجانات وندوات وملتقيات يسطع فيها نجم (كتاب) لا علاقة لهم بالكتابة أو الإبداع. وأخيرا، يجب ألا يغيب عن الأذهان، بأن الكاتب لن يكون قادرا على الكتابة الإبداعية، أو المجدية على أقل تقدير، ولن يكون كاتبا متميزا ما لم يكن قارئا متميزا. فالمهم ليس أن يكون الكاتب «يكتب وبس»، الأهم هو أن يكون الكاتب «يقرأ ويكتب». وهذا بكل تأكيد، يا جماعة، شحيح لدينا.