يوم شرّعت الأمم المتحدة قتل الأطفال والمدنيين!

TT

حين يسمي الأمين العام للأمم المتحدة قيام الجيش الإسرائيلي بقتل آلاف الأطفال والنساء والمدنيين العُزل في غزة بالقنابل الفوسفورية «أحداثا جادة»، وحين يتساءل عمن قتل هؤلاء، وحين يحتار على من يضع المسؤولية في حرب شنها طرف واحد «إسرائيل» ضد طرف واحد آخر هم المدنيون الفلسطينيون العُزل!! فإنه من حق الجميع أن يفقدوا الثقة بما يسمى «الشرعة الدولية»، لأن الوضع الدولي الحالي قد تراجع إلى مرحلة المهادنة الغربية مع الوحشية الهتلرية. أي أن الأمم المتحدة أهملت الجرائم التي تعرض لها المدنيون العرب في غزة، واهتمت بمصير مبانيها وموظفيها وحسب! ولا تخفي وسائل الإعلام المتعددة أن ضغوطا إسرائيلية وأميركية وغربية قد مورست لتخفيف لغة التقرير الصادر عن الأمم المتحدة، والذي من المفترض أنه يعرض نتائج التحقيق في «الأحداث» التي «أثرت» على موظفي الأمم المتحدة، ومبانيها، وعملياتها خلال «النزاع» الأخير في غزة، والحقيقة هي أن ما جرى لم يكن «حدثا»، بل جرائم حرب ارتكبها سياسيون وعسكريون إسرائيليون، مستخدمين فيها الأسلحة الجوية والبرية والبحرية طوال أكثر من ثلاثة وعشرين يوما ضد المدنيين العُزل، ولم «تؤثر فقط» على موظفي الأمم المتحدة، بل قتلت عددا منهم عن عمد وسابق إصرار، وهدمت المدارس والمشافي التابعة للأمم المتحدة، وتم قتل سائقي سيارات الإسعاف والمؤن واحدا بعد الآخر من قبل الجيش الإسرائيلي. وما جرى لم يكن «نزاعا»، بل جرائم حرب غاشمة شنها قادة إسرائيل ضد شعب أعزل يعيش على أرض آبائه وأجداده ويتعرض لآخر حملة تطهير عرقي في تاريخ البشرية من أجل إبادة العرب وجعل إسرائيل يهودية وحسب. ورغم كل هذا وذاك، فإن الأمين العام للأمم المتحدة قد «أفصح عن نيته» بأنه لن يجري تحقيقا آخر في «الأحداث»، وبدلا من إدانة القتلة بأقسى لغة ممكنة، احتراما، على الأقل، لموظفي الأمم المتحدة الذين استشهدوا وهم يؤدون مهامهم النبيلة، فقد اكتفى الأمين العام بالقول: «نحتاج إلى وقف إطلاق نار دائم»، ولكنه لا يحتاج أن يضمن أن أحدا لن يقتل موظفي الأمم المتحدة ولن يقتل أطفال وشعب فلسطين دون أن يستحقوا منه، وهو الممثل الشرعي للشرعية الدولية، غضبا أو إدانة أو كلمة حق تصف على الأقل ما تعرضوا له من جرائم لا تغتفر.

وبالتزامن مع صدور تقرير الأمين العام، وفي اليوم ذاته تنقل وكالات الأنباء أن هجوما أميركيا جويا في أفغانستان في 5 أيار، أي في اليوم ذاته الذي عقد فيه الأمين العام للأمم المتحدة مؤتمره الصحفي حول غزة، قتل في الهجوم «دزينات» من النساء والأطفال والمدنيين كما قال الصليب الأحمر! وبهذا يشترك نساء وأطفال فلسطين وأفغانستان والعراق بأنهم يقتلون «بالدزينات» دون أسماء أو محاسبة، وتأتي التحقيقات واللجان لتستنتج كما استنتج تقرير الأمين العام أن «الوضع معقد»، وأنه «من الصعب تحميل المسؤولية»، بل قد يعبر، كما فعل الأمين العام، عن «سعادته» لأن «الحكومة الإسرائيلية وافقت على أن تلتقي بعض موظفي الأمم المتحدة لمناقشة بعض التوصيات المتعلقة بإسرائيل». وهكذا يصبح الجلوس مع القاتل واللقاء به شرفا يُسعد به الأمين العام للأمم المتحدة ويذكره في تقريره على أنه إنجاز مهم.

وتقول التقارير من أفغانستان إن نحو 120 مدنيا من النساء والأطفال قد قتلوا حين قصفت طائرات أميركية بالقنابل قرية بالابالوك. ويتكرر التبرير والعذر نفسه في فلسطين وأفغانستان والعراق أنهم اشتبهوا بوجود مسلحين يستخدمون المدنيين كدروع بشرية، بينما أثبتت التحقيقات واعترافات الجنود الإسرائيليين أن القوات الإسرائيلية المعتدية هي التي استخدمت الأطفال والنساء في غزة كدروع بشرية. طوال السنوات الخمس الماضية والأطفال والنساء والمدنيون في العراق وأفغانستان يتعرضون للقتل والتعذيب دون أن يسجلهم التاريخ كضحايا حرب، ودون أن يُحاسَب أحد من القتلة العسكريين الذين نفذوا المجازر، أو السياسيين الذين أصدروا الأوامر التي أدت إلى ارتكاب جرائم القتل الجماعية ضد المدنيين. فهل نفهم اليوم من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الحرب على غزة، والذي أرسله إلى مجلس الأمن، والذي يشكل بذاته وصمة عار في تاريخ هذه المنظمة، هل نفهم من ذلك أن الأمم المتحدة قد شرعت قتل الأطفال والنساء والمدنيين في 5 أيار 2009 دون محاسبة للقتلة؟

إلى من سيتجه المدنيون العُزل بعد اليوم؟ وبمن سوف يستنجدون؟ إذا كان الأمين العام للأمم المتحدة لا يجرؤ أن يدافع عن موظفين له قتلوا في وضح النهار بالقنابل الفوسفورية، فكيف له أن يدافع عن أطفال غزة والعراق وأفغانستان؟ وإلى من يتجه آلاف الفلسطينيين الذين تمارس عليهم إسرائيل أبشع ممارسات التطهير العرقي من خلال هدم آلاف المنازل في القدس وتهجيرهم والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم ومياههم ومقدساتهم؟ كانت القيم الغربية عن الحرية والعدالة يضرب بها المثل خلال الحرب الباردة، ولكنها سقطت اليوم ضحية الممالأة الغربية لجرائم الحرب الإسرائيلية والأميركية، كما انهارت قيم حرية التعبير عندما أحجم البعض عن حضور مؤتمر مكافحة العنصرية في جنيف بذريعة أن المؤتمر سوف «يهاجم» إسرائيل، كما ينسحب البعض الآخر من المؤتمر حين يحمل أحد المتحدثين مرآة ليريهم وجوههم وهم يسكتون عن جرائم الحرب على غزة، والمسؤولية التي يتحملونها لأنهم مارسوا جبنا فظيعا في وجه قتلة ومجرمين محتلين. والأدهى من ذلك هو أن الإعلام الذي يسمي نفسه إعلاما «حرا» ينشغل بتوجيه الاتهامات لمن يصف الجرائم بما هي عليه وينقلها للعالم كما تم ارتكابها، ولكنه لا ينشغل بنفسه بالكشف عمن ارتكب هذه الجرائم بدم بارد. لقد أصبح الإعلام الغربي «حرا» فقط في تغطية الجرائم وتبريرها، ولكنه في الواقع أصبح مكبلا بالضغوط والتحيز والعنصرية حين يتعلق الأمر بحق عرب غزة وفلسطين في الحرية والعدالة. الإعلام يشغل نفسه باتهام من يقاوم الاحتلال بالإرهاب، علما بأن حق الدفاع عن النفس ومقاومة الاحتلال مضمون للبشرية جمعاء، ولا يتهم المحتلين بممارسة الإرهاب والقتل مع أنهم يمارسونه كل يوم. كل هذه دلائل على انهيار منظومة القيم الأخلاقية على المستوى الدولي التي من المفترض أن تمثلها الهيئات الدولية، مثل الأمم المتحدة. أي أن الأزمة الاقتصادية وانهيار الأسلوب الإمبريالي في الاقتصاد والسياسة قد رافقه أيضا انهيار ما كان يفترض بأنها مؤسسات دولية تدافع عن حقوق وحياة وكرامة وحرية الإنسان في كل مكان، بغض النظر عن العرق والجنس والدين.

لقد كان المؤتمر الصحفي للأمين العام للأمم المتحدة، والذي أوجز فيه نتائج لجنة التحقيق بأحداث غزة، معيبا وفاضحا ومساندا للعنصرية والقتل والإجرام الذي مارسته قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ومتجاهلا حتى لمطالبته هو ومطالبة جميع دول العالم إسرائيل برفع الحصار الجائر والظالم على مليون ونصف المليون من المدنيين الفلسطينيين في غزة. لقد برهنت جرائم الحرب على العراق وفلسطين وأفغانستان أن الأمم المتحدة والقوى الكبرى قد شرعت قتل الأطفال والنساء والمدنيين إذا كان القتلة من دول غربية «متحضرة»، وإذا كان الضحايا من العرب والأفغان والآسيويين والأفارقة، لأن دماءهم رخيصة جدا ولا ترقى إلى مستوى الدم البشري الذي يجب أن يغضب الجميع لسفكه. والنتيجة من هكذا تشريع مخزٍ هو أنه لا يجوز بعد اليوم الاعتماد على شرعية دولية أو منظمات حقوق إنسان أو إعلام حر أو دول متحضرة لأنها تصمت وتجبن في وجه قتلة شرسين، وتسعد وتحتفل إذا ما وافق هؤلاء القتلة على الاجتماع بأهل الضحية. فأي زمن مخزٍ هذا الذي نعيشه؟! لقد حان الوقت بالفعل لإعادة النظر بكل الهيئات والمنظمات التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، وحان الوقت للبشرية أن تبحث عن هيئات ومنظمات تنال احترام العالم وثقته، وتحرص بالفعل وتجرؤ على الدفاع عن كرامة وحقوق وحياة الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء في كل مكان، بغض النظر عن العرق والدين والجنس والقومية.

www.bouthainashaaban.com