«نيو» ـ عثمانية.. «نيو» ـ فارسية

TT

إذا كانت كلمة نيو تعني «جديد»، فإن التاريخ حتما يعود بصورة جديدة إلى المنطقة من خلال تجدد لاعبيه الأساسيين التاريخيين، أي الإمبراطوريات الإقليمية القديمة، وبالتحديد تركيا وإيران.

يقول المؤرخ الأميركي برنارد لويس إن الصراع بين الإمبراطوريتين تبدل عبر مراحل عدة، وبصور مختلفة، وتحت أسماء مختلفة غابت عن الأذهان في العصر الحاضر. ففي القرن السادس الميلادي، كان الصراع يدور بين الساسانيين وبيزنطية. ومع قدوم الإسلام، وانهيار بيزنطية، غيّر الدين الجديد كل المنطقة. ومع تشيع إيران مع الصفويين في القرن السابع عشر، وتبوؤ السلطنة العثمانية سدة الخلافة الإسلامية السنية إذا صح التعبير، ظل الصراع مستمرا بين القطبين الأساسيين في المنطقة.

سقطت الخلافة الإسلامية مع إعلان أتاتورك إنشاء الدولة التركية، وتوجهت بوصلة تركيا نحو الغرب. وفي الوقت نفسه، مرت إيران بعدة تجارب وقلاقل داخلية كانت قمة التحولات فيها الثورة الإسلامية في العام 1979.

لكن الثابت الوحيد في كل هذه التحولات، كما يقول المفكر الاستراتيجي كولن.إس.غراي، هو العامل الجغرافي، وعدم قدرة صناع السياسة على الهروب منه. وإذا كانت تركيا من جهة، إمبراطورية قديمة، تقريبا مستقرة كما حال إيران. فإن المنطق الجيوبوليتيكي، وبحكم التقارب والتماس الجغرافيين بين الإمبراطوريتين، يقول بحتمية الصراع بين الاثنتين على مناطق النفوذ، خاصة الأقرب جغرافيا. وتتمثل اليوم مناطق النفوذ، وحتمية الصراع عليها في كل من جنوب القوقاز، منطقة الخليج، خاصة في العراق، وأيضا المشرق العربي.

تعود الإمبراطوريتان إلى المنطقة ككل تحت مُسمى جديد ـ نيو. تعود إيران مع ثورة إسلامية تقوم على مبدأ ولاية الفقيه، ومع دستور ديني، وتركيبة حكم معقدة جدا، ودون السماح لأحد بلعب أي دور سياسي من خارج بطانة الثورة، خاصة العلمانيين. كذلك، تعود إيران مع نظام اقتصادي هجين لا ملامح واضحة له. وتحدد عدويها الأساسيين، وتحت شعار الإسلام كدين، وليس الشيعة كمذهب، الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. كذلك، تستغل إيران إذا دعت الحاجة الانتشار الشيعي في المناطق التي تسعى إلى ترسيخ نفوذها فيها لأهداف استراتيجية (لبنان والبحرين). وتختلف إيران عن تركيا في مدى هامش تحركها السياسي كما الاستراتيجي، إن كان في محيطها المباشر، أو المحيط الأبعد. فهي مُعاقبة من القوى الكبرى. ولا تزال مُحتواة تقريبا. وهي متهمة بالسعي للحصول على السلاح النووي. لكن دينامية اللعبة الاستراتيجية في محيطها المباشر، جعلت منها المستفيد الأكبر من كل الاستراتيجيات التي اعتمدتها أميركا بعد 11 أيلول. فهي استفادت من سقوط نظام «طالبان» في أفغانستان. كذلك، وهنا بيت القصيد، استفادت من سقوط نظام صدام حسين. لكن الأهم، أن الفشل الأميركي في العراق، اظهر لإيران وللعالم محدودية قدرة أميركا على فرض الحلول منفردة، حتى ولو كانت الدولة الأقوى عسكريا في العالم. وكي تثبت مشروعها في المنطقة، تعمد إيران إلى استراتيجية غير مباشرة لزعزعة الأنظمة المنافسة، فقط كي تضع هذه الدول في موقع الدفاع، وتحتفظ هي بزمام المبادرة. لذلك تركز إيران على إشغال إسرائيل في داخلها، كما على محيطها، وتحت شعارات لا يمكن أحدا من المنافسين أن يرفضها (الصراع العربي ـ الإسرائيلي)، وأيضا تحت شعار الإسلام. وبذلك، تكون إيران تستغل الدين لأهداف استراتيجية بحتة. أليست المصالح هي الدائمة وليس الصداقات؟

بعد إسرائيل، تحاول إيران إشغال مصر في داخلها، كما في محيطها. وإلا فما معنى القبض على شبكة حزب الله في مصر؟ لكن الجدير ذكره هنا، هو الاعتراف العلني للأمين العام لحزب الله حول شبكة الحزب في مصر. فهو اعتبر الأمر شرفا وواجبا، وليس تدخلا في شؤون دولة أخرى، إذ أن المقاييس التي يعتمدها لسلوكه هذا هي غير المعايير التي يعتمدها النظام في مصر. ويتكل نصر الله على صواب موقفه وقوته مقابل ضعف الموقف المصري. فهل يمكن الدفاع عن إسرائيل أمام الشعوب العربية؟ بالطبع لا. لكن عملية خلية حزب الله في مصر هي جزء بسيط من لعبة شطرنج أكبر بكثير تدور اليوم في الساحة الإقليمية. وهذا أمر يذكرنا بما كان يدور من تنافس وصراع في المنطقة، بين الشاه قديما والرئيس جمال عبد الناصر، كما يدور الصراع نفسه اليوم بين مرشد الثورة والرئيس مبارك. لكن لماذا مصر وليس غيرها من الدول؟ باختصار، لأن العمود الفقري الذي يرتكز عليه النظام الإقليمي اليوم، كما النظام العربي، على الأقل في ما خص القوة الصلبة، هو دولة مصر وبامتياز. فلنتأمل مصير المنطقة وشكلها، مع مصر، لكن بنظام مختلف قد يكون إسلاميا، ينقض اتفاق كامب ديفيد مثلا.

من جهة أخرى، تعود تركيا مع ما يُسمى نيو ـ عثمانية إلى خلفيتها الاستراتيجية، وذلك بعد حصول تحولات كبرى في جيوبوليتيك العالم والمنطقة. فقد سقط الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي رفع عبء الدب الأكبر عنها. كذلك، رفض الاتحاد الأوروبي حتى الآن انضمامها إليه. وأخيرا وليس آخرا، تأتي كارثة 11 أيلول، وما نتج عنها، خاصة في المحيط المباشر لتركيا، ألا وهو سقوط العراق، الأمر الذي قد يهدد وحدتها الجغرافية عبر حراك الأكراد.

تعود تركيا أتاتورك إلى المنطقة، لكن ليس كما أرادها أب الأتراك. فهي اليوم تقوم على دستور علماني بحت، لكن يحكمها حزب إسلامي. تركيا ليست إيران، فترتيب اقتصادها في العالم هو السادس عشر، وتعتمد اقتصاد السوق. وهي عضو في حلف شمال الأطلسي. كذلك، تملك أقوى جيش تقليدي في كل منطقة الشرق الأوسط. وهي تقدم نفسها اليوم بوجهين، واحد أوروبي، وواحد آسيوي. وتسعى لتكون الممر الأساسي لطاقة آسيا الوسطى إلى أوروبا الغربية، الأمر الذي قد يجعلها تتحكم في أمن الطاقة الأوروبي، في ظل هيمنة روسيا وتفردها في هذا المضمار حاليا.

تتصرف تركيا اليوم، انطلاقا من القول: «عرف الحبيب حسنه فتدللا». تعرف اليوم قدرها الاستراتيجي بكل ما للكلمة من معنى. وإلا فما معنى زيارة الرئيس الأميركي أوباما لها أخيرا دون غيرها من دول المنطقة؟ تعود تركيا إلى المشرق العربي بين إسرائيل وسورية، فقط كي توازن الصعود الإيراني. فهي حتما لا تريد إيران نووية، وحليفة سورية، ومُسيطرة على العراق في الوقت نفسه.

هل تعني هذه الأمور أن الصعود إلى القمة مضمون للاثنتين؟ بالطبع لا، فالصعود هو مسار شاق وطويل، وليس قرارا يُتخذ على الخريطة. فأمام إيران الكثير من العوائق، وكذلك أمام تركيا. لكن الأكيد، أن منطقتي جنوب القوقاز، كما منطقتي الخليج، والمشرق العربي، ستشكل جميعها المسرح الأساسي للتنافس بين نيو ـ إيران ونيو ـ تركيا.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي