هل يرهن مسيحيو لبنان مصيرهم بـ«دولة ولاية الفقيه»؟

TT

«الإيرانيون لا يلعبون النرد، بل الشطرنج»

إيهود باراك

أن ينخدع الناخب المسيحي ـ ولاسيما الماروني ـ بالمزايدة الطائفية و«الوطنجية» لأمر يدعو إلى الأسف. ولكن أن ينخدع للمرة الثالثة منذ 1989، ومن المصدر نفسه، وفي هذا المفصل الزمني بالذات، فلا أقل من كارثة عليه وعلى لبنان.. الذي طالما زعم الضمير السياسي المسيحي أن المسيحيين مؤتمنون عليه أكثر من أي من مكون آخر من المكونات البشرية في هذه البقعة المضطربة من الشرق الأدنى.

على أي حال، من حسنات «الديمقراطية»، وهنا أستخدم هذه الكلمة بالكثير من التحفظ على أساس ممارستها في لبنان، أن المرء في نهاية المطاف يحصد ما يزرع، ويأخذ ما يستحق..

والمؤشرات التي ترتسم يوما بعد يوم مع العد التنازلي نحو «اللا انتخابات» المضروب موعدها يوم 7 حزيران (يونيو) المقبل، تدل على أن مختلف القوى السياسية والكتل الطائفية في لبنان ستخرج من تلك التجربة المشوهة بما تستحقه وتستأهله. والثابت الوحيد المرجح لتلك التجربة وتداعياتها هو نهاية «الوطن» بكل ما يحمله من معاني «المواطنية» و«السيادة» و«القرار المستقل» و«احترام حقوق الإنسان».. فهذا تماما ما عملت له «القبائل» اللبنانية وبطونها وأفخاذها المتناحرة، سواء بإرادتها الغريزية الذاتية.. أو انصياعها للأوامر الإقليمية.

أساسا، فكرة «الوطن» كانت منذ بعض الوقت بعيدة عن ذهنية اللبناني الذي يشعر بدفء أكبر وطمأنينة أكثر ضمن صفوف «القطيع». لكن مَن كان يتوهم أن بعض الفئات التي أسس الكيان الحالي وفق تطلعاتها ولتبديد هواجسها التاريخية تعي أهمية المحافظة عليه.. ها هو يصدم بأنها الأكثر تحمسا لتدميره.. ومع تدميره، تصفية وجودها بالمطلق.

ثمة من يفلسف مضي نسبة لا بأس بها من المسيحيين قدما في دعم خطاب المزايدة الطائفية التي «تستعيد» جزين المسيحية، و«تحمي» زحلة المسيحية، وترفض «بيع» المتن (الجنوبي والشمال) المسيحي.. بأهمية توحيد المسيحيين تحت قيادة واحدة مقاتلة ورؤيوية ومعصومة عن الخطأ.

غير أن هؤلاء إما يجهلون أو يتجاهلون أن المسيحيين يكسبون اليوم بالنقاط ما سيخسرونه بعد حين.. بالضربة القاضية.

هذا الكلام ليس تحريضا بقدر ما هو محاولة لوضع الخطاب الديماغوجي المنفر الذي استمع إليه اللبنانيون خلال الأسبوع الماضي على المحك. فـ«استعادة» جزين الموعودة من هيمنة الصوت الشيعي الجنوبي، يأتي في ظل استمرار مفعول وثيقة التفاهم بين «حزب الله» (الشيعي، حسب علمي) و«التيار العوني». وإصرار النائب ميشال عون على «استعادتها» كما لوكان أبو سمرا غانم القرن الـ21.. يفهم «حزب الله» أسبابه.. تماما كما يفهم طبيعة عون ومشاربه وطموحاته. لكن «الحزب» الذي يلعب السياسة وفق غايات استراتيجية كبرى على مستوى المنطقة ككل، مستعد للتضحية بدائرة مسيحية صغيرة من أجل ضرب خصومه في لبنان، الذين هم أيضا خصوم حلفائه وداعميه الإقليميين. وهنا التفسير الحي لكلام زعيم حزب العمل الإسرائيلي إيهود باراك عن أن «الإيرانيين لا يلعبون النرد، بل الشطرنج». والمعنى أن ممارستهم السياسة تقوم على التخطيط والصبر والمناورة.. وليس على «قلبات» زهر الطاولة.. وضربات الحظ العابرة.

ثم إذا أن عون، في حمأة تأجيجه الطائفي المتصاعد في المواسم الانتخابية، يدرك أنه لن يخسر في شارعه الممسوك غريزيا إذا ما فتح معركة إضافية مع أي فريق مسلم. ولهذا اختار عمدا فتح معركة مع الرئيس نبيه برّي وحركة «أمل»، معتبرا أن هذا التحدي سيرفع رصيده حتما في مناطق العمق الماروني على حساب مسيحيي «14 آذار»، ومدركا أن «حزب الله» سيقف معه لأنه ما زال بحاجة إليه في معركته المفتوحة مع «السنية السياسية» وفق حساباته.

وفي هذه الأثناء يبقى «حزب الله» رافعة لعون وحلفائه في «حماية» زحلة بكتلة أصواته، ومنع «بيع» المتنين الجنوبي بكتلة أصوات الضاحية الجنوبية ومربّعها الأمني.. والشمالي بالتعاون مع الصوت الطاشناقي الأرمني.

«حزب الله» يعرف جيدا ما يريد، كيف يسير، ولمصلحة مَن يتحرك. والرئيس نبيه بري برغم وعيه خطورة هذه المرحلة وخطورة هذه الرهانات، ما زال غير مستعد للمجازفة بتحمل تبعات شق الصف الشيعي، وخسارة الحصة التي استطاع حتى الآن الحفاظ عليها منه في وجه «حليف» أقوى وأغنى وأشد تنظيما وأعمق ارتباطا بالمخططات الإقليمية الكبرى.

أما عون وأتباعه فما زال يسحب من رصيد بداية مزايداته عام 1989، وهو مؤمن بأنه ـ مثل شارل ديغول في نظرته للشعب الفرنسي ـ يعرف ما يريده شعبه أكثر من الشعب نفسه.

هذا جانب من الواقع المسيحي المؤلم. أما الجانب الآخر، وهو مؤلم أيضا، فينعكس في تعذر إيجاد الصيغة الإنقاذية للمسيحيين من المصير القاتم الذي سيقودهم إليه عون في الآتي من الأيام، إما كوقود رخيص في أتون الصراع الإقليمي الشيعي ـ السني، أو كرعايا في دولة «الولي الفقيه».

فبجانب سوء اختيار بعض المرشحين في الدوائر المفتوحة للفوز، أخفق مسيحيو «14 آذار» المستهدَفين من أكثر من جهة محلية وخارجية، في بناء صيغة جبهوية حقيقية تحترم اختلافاتهم الشخصية والتنظيمية وتستوعبها وتنظمها.

وحتى عندما طرح مشروع «الكتلة الوسطية» كوسيلة لكبح الانزلاق نحو الهاوية التي يقود عون المسيحيين ومعهم كل اللبنانيين باتجاهها، فقد هذا المشروع زخمه والكثير من صدقيّته وتفرّق العاملون من أجله. ومن ثَم، تحول من حيث يدري أصحابه أو لا يدرون إلى وسيلة لتشتيت الصوت «السيادي» أو «الاستقلالي» بعدما كان القصد منه (أي المشروع) الالتفاف حول رئاسة الجمهورية وتحصينها بعدما انتخب لها رئيس توافقي يحظى ـ ظاهريا على الأقل ـ بتأييد مختلف الأفرقاء على الساحة اللبنانية.

بل ثمة من يشك اليوم، بأن مشروع الكتلة الوسطية غدا في المناطق التي أبصر فيها النور وسيلة لضرب قيادات مسيحيي «14 آذار» وإزاحتها من الصورة.

العد التنازلي نحو مفصل 7 حزيران بدأ مع اكتمال اللوائح في كل الدوائر تقريبا، وكلام مَن في يدهم إلغاء «الوطن» واضح ولا يحتاج إلى تفسير. والكرة اليوم ربما لآخر مرة في الملعب المسيحي.