الفصول

TT

بلغت السن التي قال والدي إن المرء يبلغها ذات يوم. لم يحدد العقد ولا السنة على وجه الضبط، لكنه قال لي غداً، عندما تكبر سوف يضايقك أي شيء. إذا فتحت الريح الباب سوف تتبرم. وإذا أغلقته سوف تتذمر. إذا انخفض صوت محدثك لن تسمع ما يقول، وإذا ارتفع سوف تتوتر.

أكتشف اليوم أن الحرارة خانقة والبرد سريعاً ما يصيبني بالبرد. أتعب في الجمع وأحزن في الوحدة وأرتعد من العزلة. أحب الهدوء وأعرف أن بعض الفرح يدور في عالم الصخب. أتعب سريعاً من قراءة الأشياء المعمقة، لكنني لا أقوى على قراءة الخفة. إلاَّ أنني أعرف أن الأشياء لم تخلق من أجلي وحدي. لا حركة الفصول، ولا طباع الناس، ولا أذواقهم. ولذا أعود دائماً إلى قراءة الأشياء التي أحببتها، وأتذكر دائماً الناس الذين أحبهم. ولم تعد لي أحلام سوى بسيطها. حديقة بيتي، أو أي حديقة أخرى. كل حلم آخر هو من أجل ابنتي وابني. أحلم لهما بوطن هادئ ومواطن هادئ وشعب غير متعدٍ. ثمة متسع في هذه الأرض لأحلام الجميع. أحلم لابني وابنتي بأصدقاء مثل أصدقائي لكن بزمن أفضل من زمني. وأتمنى ألا يخطئا في حق أحد. وأن يدركا مبكراً أن الوقوف عند الصغائر، صغائرهما أو صغائر الآخرين، هدر للوقت في دمنة الوقت لا في طاحونته.

لا أدري كم هو عدد السنين والأشياء التي ندمت عليها. كثيرة جداً في أي حال. لكن أكثر ما ندمت عليه أنني نزلت من شجرة المحبة إلى حفرة الثأر. كل كلمة كتبتها انتقاماً لنفسي هي كلمة ليتها لم تكتب، وفكرة ليتها لم تخطر، وعيب لا يقل عن عيب المسيئين. لكن الفصول لم تخلق من أجلنا وحدنا. وفي عمري تتعب كثرة البرد وقلته، وكثرة الحر وقلته، وكثرة الطعام وقلته، وكثرة الملح وكثرة الحلو. وللأسف ليس هناك فصل جُعل ورتِّب وقيس على هوى ارتفاع الضغط وانخفاض السكر. لم أتطلع يوماً إلى الذين سبقوني وتخلفت عنهم. تطلعت دوماً إلى الخلف وشعرت بعطف شديد على من تخلف. لا الذين أمامي أشعروني بالنقص، ولا الذين خلفي أشعروني بالغرور. فأنا سعيد في مكاني ونادم فقط على ضياع الوقت. كان حظي رائعاً بمن عرفت من خيرة الناس، ولا بأس بالقليل من سوء الحظ على الطريق. فما هي عثرة أو حجر، أمام هذا الأفق؟ وندمي واسع لكنه طفيف. إخفاقاتي كثيرة وخطاياي قليلة. وأكثرها بلا وعي وبلا قصد وبلا معرفة. ولا علاقة لواحدة منها بضميري. السذاجة ليست خطيئة. لكنها مدعاة للندم في أي حال. كان المازني يقول إن ثمة شرطياً يطارده في كل مكان، هو ضميره. وأعتقد أنه كان يقصد أن ثمة شرطياً كان يحميه. يتعبك الضمير من شدة حرصه عليك.