هل ينصح أبو مازن عباس المفاوض؟!

TT

حققت المرجعية النضالية العربية نصرا باهرا في القرن العشرين. فقد تغلبت على الاستعمارين العثماني والأوروبي. حقق النضال الاستقلال الوطني، من دون تسييس المرجعية الدينية والجهادية، ومن دون قطع العلاقة مع الثقافة الإنسانية. لكن الاستقلال الوطني بقي مجتزَأً. فقد اشترط الاستعمار، في مقابل الانسحاب، عدم قيام دولة الوحدة القومية.

المرجعية النضالية الفلسطينية استثنت نفسها من هذا النجاح النضالي العربي. كان هناك سببان للفشل الفلسطيني: كون المشروع الصهيوني الاستيطاني فوق طاقة القيادات الفلسطينية وحدها على إسقاطه. وانطواء هذه القيادات على ازدواجية في الشخصية متناقضة، في مراوحتها بين نزوعها الشعبي وممارستها السياسية والرسمية.

اضطر السياسي أمين الحسيني إلى وضع العمامة الدينية باكرا على رأسه، ليحتفظ لأسرته المقدسية بمنصب الإفتاء. ظل طوال حياته رهينة هذه الازدواجية المتناقضة بين السياسي والديني. في دهائه السياسي، حافظ على الوحدة الوطنية. أيضا، لم يفاوض، وإن كان الارتجال طابع ممارسته الزعامية. لكن منصبه الديني المهيب أضفى عليه نوعا من «المعصومية» حَمَتْه من مساءلته عن خطأ كارثي ارتكبه.

لجأ الحاج أمين الحسيني إلى ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. كان يظن واهما، مع المرجعية القومية العراقية، أن الفاشية الهتلرية أكثر عدلا من الديمقراطية الأوروبية في التعامل مع القضية الفلسطينية. سمحت الديمقراطيات الأوروبية للحاج أمين بالعودة إلى فلسطين بعد الحرب، لكن لم تغفر له خطأه. لم تعاقبه شخصيا، إنما عاقبت شعبه بالتعجيل بإقامة إسرائيل والانحياز المطلق لها.

الاستقلال العربي المجتزأ أخمد الروح النضالية القومية. فشلت جيوش «الاستقلالات» في إنقاذ فلسطين. للتعويض عن مفقود، أجلس النظام العربي الباشا العجوز أحمد حلمي، على مقعد «دولة عموم فلسطين» التي لم يكن لها من وجود سوى في مؤسسة عاجزة، كالجامعة العربية.

كان الباشا بطربوشه وشاربه المنتصب بالصمغ أشبه بصورة جدك الأكبر التي تحتفظ بها بوقار على الجدار. لما كان الباشا غير قادر، أو غير مسموح له بالكلام، فقد حل محله باشا آخر. كان أحمد الشقيري تجسيدا آخر لازدواجية الخلط بين السياسي والشعبي، بين وجاهة السلطة واستمالة المخيم، بوعد على المنابر بإلقاء اليهود في البحر.

الخجل، من الفشل في حرب النكسة، حدا بالنظام العربي إلى تسليم القضية القومية إلى مناضليها المحليين. تم تجاهل حقيقة التاريخ التي تقول إن تحرير فلسطين من الغزو الخارجي، كان دائما نتيجة لوحدة عسكرية لجيوش الدول المجاورة لفلسطين، وليس أبدا من خلال نضالية أو جهادية فلسطينية محلية.

كانت نضالية عرفات سياسية وميدانية معا. نضالية مختلفة تماما عن نضالية الحسيني والشقيري المرتجلة أو الكلامية. لكن في مقابل استقلالية عرفات، نشأت استقلالية عربية سمحت لنظام السادات بالتفرد بصلح مع العدو. دفع السادات ثمنا باهظا، لظنه الساذج بأن الصراع مع المشروع الصهيوني سياسي، وليس بمصيري. ظن الصراع مع إسرائيل كالصراع مع الأشقاء العرب في ليبيا أو سورية. نصالح اليوم. نختلف غدا. نتفق بعد غد.

جَرَّت استقلالية عرفات كارثة مماثلة. من دون أية مشورة عربية، اعترف عرفات بإسرائيل في الثمانينات. انشق عن عرب مدريد، ليفاوض ويصالح إسرائيل في التسعينات. انتهت المفاوضات المتكررة مع رابين ونيتنياهو وبيريس وباراك وشارون، بعرفات أسيرا معتقلا في رام الله. الذريعة الإسرائيلية والأميركية الواهية هي استخدامه الازدواجية الفلسطينية المتناقضة: دهاء السياسي في خداع العدو، والتزام الزعيم الشعبي بشارعه الوطني.

الفائدة الوحيدة لمراجعة التاريخ هي في استخلاص العبر منه. محمود عباس يكرر خطأ الزعامات الفلسطينية التقليدية. عباس السياسي نقيض لأبي مازن الشعبي والوطني. شهية السياسي للتفاوض، تقابلها استقامة صارمة وطيبة للوطني والشعبي أبي مازن. رغبة جامحة في التوصل إلى اتفاق مع عدو مخادع كشارون، أو مفلس كأولمرت، وإصرار على استقامة ونزاهة المصارحة مع الشارع الوطني. مكافحة خجولة لفساد السلطة. ضبط نسبي أمني لمقاومة فالتة. عجز صريح في استعادة وحدة فتح المترهلة، أو إنهاء تمرد الإمارة الجهادية في غزة.

لخداع عباس، جمع بوش في أنابوليس العرب العاربة والمستعربة مع إسرائيل. منح بوش عباس وأولمرت سنة للتوصل إلى اتفاق نهائي، من دون تدخل أميركي جدي لفرض سلام عادل وملزم. وهكذا، كانت المفاوضات شعارا لإلهاء عباس والعرب، عن الغياب الأميركي، وعن تسريع إسرائيلي في استيطان الضفة. بل انتهت ولاية بوش بحرب إبادة في غزة، أدت إلى إضعاف المفاوض السياسي في الضفة.

أستطيع أن ألخص كل الجهد السياسي والدبلوماسي المحموم هذه الأيام بهدف واحد: جَرُّ السياسي عباس إلى مائدة التفاوض مرة أخرى، مع مَن؟ مع نيتنياهو وأفيغدور ليبرمان هذه المرة. لست ضد مبدأ التفاوض، لكن إذا كان السياسي عباس غير قادر على مقاومة رغبته الدائمة والمتعطشة لحل سياسي عبر المفاوضات، أو مضطرا لمراعاة خاطر أوباما وأوروبا، فهو قادر على الاستماع إلى النصيحة المخلصة والرادعة للشخص الآخر الكامن في داخله، نصيحة أبي مازن الذي يحمل تجربة عمرها خمسون سنة في العمل السياسي.

ماذا يطلب الفلسطيني الطيب من عباس السياسي المفاوض؟ أعتقد أن نصيحة أبى مازن لعباس هي رفض المفاوضة الثنائية. لابد من حضور أميركي أو ربما أوروبي، على المائدة. وقف الاستيطان وسحب حواجز الحصار وفتح المعابر، كل ذلك يبدد جو التوتر في الصالة المغلقة. ربط العملية التفاوضية بجدول زمني محدد ينتهي باتفاق على إقامة الدولة الفلسطينية، يمنع نيتنياهو من التسويف والمماطلة وإطالة أمد التفاوض، إلى أن يشيب ليبرمان الغراب، ويفنى التراب، تراب الوطن.

المناورة واضحة. استقامة أبي مازن تقابلها عقلية نيتنياهو الالتفافية. فهو ذاهب إلى واشنطن ليقنع أوباما بتقديم الصراع مع إيران، وتأجيل الدولة الفلسطينية. تقديم التطبيع مع العرب بالقفز فوق الرقم الفلسطيني. تحسين اقتصاد عباس من دون سحب حواجز الضفة، ومن دون فتح معابر غزة.

حتى مشعل يزايد على عباس وأبي مازن. بعد حرب غزة، بات مشعل راغبا في صنع السلام. تحول من رفض التهدئة قبل الحرب، إلى المطالبة بهدنة طويلة بعدها. الهدنة ستعفي إسرائيل من الالتزام باتفاقات دولية معها. هدنة حماسية ساذجة تسمح لإسرائيل بالاستمرار في سرقة الأرض والمياه وتهويد القدس!

الجامعة العربية رفضت تعديل مبادرة السلام. لكن لابد من الاعتراف بأن المبادرة بحاجة إلى آلية تنفيذية واضحة في تفاصيلها. العرب متفقون في الخطوط. مختلفون في التفاصيل. لا يجرؤون على مصارحة بعضهم بعضا علنا، بما يتناقلونه سرا. ماذا مثلا عن حق العودة؟ بات الإصرار علي العودة إلى ما وراء الخط الأخضر (أي إسرائيل) يحول دون قيام الدولة الفلسطينية. ربما الحل في استفتاء فلسطيني. أو في الدولة الواحدة للشعبين. ففيها يملك الفلسطيني حق اليهودي، في الإقامة والسكن في المنطقة التي يريدها. هل تجاوزت حدودي في المصارحة؟ لا أظن.