علماء على الهامش

TT

رغم إقدام الرئيس أوباما على تعيين بعض الخبراء الاقتصاديين الأكاديميين والمحامين البارزين داخل إدارته، فإن اختياره لم يقع سوى على بضعة علماء رفيعي المستوى، متخصصين في مجال العلوم السياسية. وفي الواقع، أعلن محررون معنيون باستطلاع للرأي، أُجري مؤخراً، شمل ما يزيد على 2.700 خبير بمجال العلاقات الدولية أن «الأسوار المحيطة بالبرج العاجي تبدو أكبر من أي وقت مضى». ورغم تولي علماء أميركيين بارزين، أمثال هنري كيسنجر، وزبغنيو بريزنسكي مناصب رفيعة المستوى فيما يتصل بإدارة السياسة الخارجية الأميركية فيما مضى، فإن هذه التعيينات بدت إجراءً فرديا، وليست توجها عاما. وعليه، يبقي الكثير من العلماء البارزين المعنيين بالعلاقات الدولية خارج صفوف الحكومة، بل وإن عددا قليلا ممن يلتحق منهم بالعمل الحكومي يعاود فيما بعد الإسهام في العمل النظري الأكاديمي.

جدير بالذكر أن استطلاعاً للرأي أجراه معهد النظرية والتطبيق في العلاقات الدولية عام 2008 حول التدريس والأبحاث والسياسات الدولية، كشف أنه من بين 25 عالماً جرى تصنيفهم باعتبارهم الأكثر إسهاماً من الناحية العلمية على مدار السنوات الخمس الماضية، ثلاثة فقط منهم تولوا مناصب رسمية ترتبط بوضع السياسات (اثنان لدى الحكومة الأميركية، والثالث لدى الأمم المتحدة). والواضح أن المسؤولية عن هذه الفجوة المتفاقمة تقع على عاتق الحكومة، وليس الأكاديميين.

وعلى ما يبدو، يولي العلماء اهتماماً أقل إزاء مسألة كيفية تطبيق أعمالهم داخل عالم السياسة. كما أنه داخل الكثير من الوزارات، قد يسفر تركيز المرء على السياسات المسؤولة عن الإضرار بمستقبل المهني. في المقابل، نجد أن الترقي غالباً ما يكون من نصيب مَنْ يتمكنون من صياغة مخططات رياضية، أو أساليب منهجية، أو نظريات جديدة يجري التعبير عنها عبر مصطلحات مبهمة بالنسبة لصانعي السياسات. على سبيل المثال، توصلت دراسة مسحية أجريت على المقالات التي نشرتها دورية «أميركان بوليتيكال ساينس ريفيو» على مدار تاريخها إلى أن ما يقرب من الخُمس تناول توصيات أو انتقادات تتعلق بالسياسات المتبعة خلال النصف الأول من القرن، بينما لم تظهر سوى حفنة من هذا النمط من المقالات بعد عام 1967. من ناحيته، أشار المحرر لي سيغلمان في الإصدار المئوي للدورية إلى أنه «إذا كان الحديث إلى السلطة، والإسهام بصورة مباشرة في الحوار العام حول مزايا ومساوئ مسارات مختلفة من العمل لا يزالان يحسبان من بين مهام هذه المهنة، فإن أحداً لا يمكنه التعرف على هذين الأمرين عبر تصفح الدورية الأولى المعنية بهذه المهنة».

وباعتبارهم مواطنين، ربما يجري النظر إلى الأكاديميين على أنهم يتحملون مسؤولية المساعدة في تطوير الأفكار المرتبطة بالسياسات المتبعة أينما أمكنهم ذلك. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مثل هذا التعاون باستطاعته تعزيز وإثراء العمل الأكاديمي، وبالتالي قدرة الأكاديميين على تعليم الجيل القادم. ومثلما أشار وكيل وزارة الخارجية السابق، ديفيد نيوسوم، منذ عقد مضى، فإن «الانسحاب المتزايد من قبل علماء الجامعات وراء جدران النظريات ووضع المخططات النظرية لم يكن ليحمل أهمية أكبر، لولا إثارته تساؤلات حول إعداد الأجيال القادمة، والتأثير المستقبلي للمجتمع الأكاديمي على الرأي العام ووجهات النظر الرسمية حيال القضايا والأحداث الدولية. إن المدرسين يغرسون البذور التي تشكل فكر الأجيال الجديدة، وربما يمثل هذا الإسهامَ الأكبر للمجتمع الأكاديمي». ورغم ذلك، كثيراً ما يدرس العلماء نظريات ومناهج ذات أهمية بالنسبة للأكاديميين الآخرين، لكن ليس لغالبية الطلاب الحاضرين داخل الفصل الدراسي.

ويقول بعض الأكاديميين إنه في الوقت الذي ربما تخلف الفجوة المتنامية بين النظرية والسياسات العملية تكاليف تتحملها السياسة، فإنها أفرزت نظرية أفضل للعلوم الاجتماعية، وهو أمر يحمل أهمية أكبر عما إذا كانت مثل تلك المناهج التعليمية ذات أهمية على أرض الواقع. وبالإضافة إلى ذلك، تعد هذه الفجوة، إلى حد ما، نتاجاً حتمياً لنمو وتزايد التخصص على صعيد المعرفة، ذلك أن عدداً ضئيلاً من الأفراد باستطاعتهم الإلمام بكافة جوانب تخصصاتهم الفرعية، ناهيك عن جميع ألوان العلوم الاجتماعية، بيد أن الخطر الأكبر يكمن في أن النظريات الأكاديمية تتحرك باتجاه قول المزيد حيال قضايا أقل. وحتى عندما يُقْدِم الأكاديميون على كتابة مقالات في الدوريات أو الصحف أو المدونات، أو من خلال العمل كمستشارين لمرشحين سياسيين أو مسؤولين عموميين، فإنهم يواجهون الكثير ممن ينافسونهم على اجتذاب الاهتمام في ظل وجود ما يزيد على 1.200 منظمة فكرية في الولايات المتحدة توفر ليس الأفكار فحسب، وإنما كذلك خبراء على استعداد للتعليق أو تقديم المشورة على الفور. تسهم بعض هذه المنظمات في العمل كمنافذ إضافية للتعبير عن الأفكار الأكاديمية، إلا أن الكثير منها يضفي قدرا من التحيز تبعاً لميول مؤسسي وممولي المنظمات. بصورة مجملة، تتسم المنظمات الفكرية بتباين وتنوع في مجالاتها وتمويلها وأيديولوجيتها ومواقعها، بينما توفر الجامعات، على الجانب الآخر، وجهات نظر أكثر حيادية. ورغم أن تنوع هذه المؤسسات يعد أمراً جيداً من المنظور الديمقراطي، فإن عملية صناعة السياسات تتراجع جراء انسحاب المجتمع الأكاديمي.

ويجب التوصل إلى حلول لهذه الإشكالية من خلال إجراء عملية إعادة تقييم داخل الحقل الأكاديمي ذاته. وعلى الأقسام المختلفة منح أهمية أكبر للتطبيق العملي والتأثيرات المرتبطة بتعيين وتعزيز مكانة العلماء الشباب. وبمقدور الدوريات توجيه اهتمام أكبر في تقييمها للمقالات على إمكانية التطبيق العملي وصلتها بالواقع. كما أن هناك حاجة لتخصيص مزيد من الاهتمام للدراسات التي تعنى بأقاليم بعينها. ويمكن للجامعات تعزيز الاهتمام بالعالم المحيط، من خلال توفير حوافز أكبر للأعضاء الشباب في الكليات للمشاركة به. وينبغي أن يتضمن ذلك إبداء قدر أكبر من التسامح حيال المواقف السياسية المفتقرة إلى الشعبية. ومع ذلك، يبدو أن التوجه العام داخل الحقل الأكاديمي يسير في الاتجاه المعاكس.

*بروفيسور في جامعة هارفارد، والعميد السابق لمدرسة كينيدي في الجامعة نفسها

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ («الشرق الأوسط»)