بريمر: جرِّب هذه اللعبة!

TT

كان لافتا في حديث الحاكم المدني الأمريكي الأسبق للعراق، بول بريمر، إشارته إلى أنهم قد أخطأوا حينما أوكلوا قرار «اجتثاث البعث» إلى سياسيين عراقيين ولم يتم إيكال المهمة إلى قضاة وقانونيين محترفين.

بريمر في حديثه المهم إلى صحيفة «الشرق الأوسط» دافع عن مرحلة إدارته في العراق، بما فيها قرار حل الجيش واجتثاث البعث، ورأى أنهما قراران صحيحان، وأن الناس فهموا الأمور على غير حقيقتها، لم يعترف بوجود أي أخطاء في هذه القرارات تسببت، لاحقا، في تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق، وأنه كان يمكن تلافي الكثير من المصاعب لو لم يتم اتخاذ هذه الإجراءات العدوانية ضد فئة واسعة من العراقيين كانوا يعتاشون على وظائف الجيش وعضوية الحزب، حتى ولو لم يكونوا مؤمنين بأفكار البعث، ثم فجأة وجدوا أنفسهم مع عائلاتهم عرضة للمطاردة وقطع الأرزاق، وحرموا من كل شيء، الراتب والأمن والنفوذ. كثيرون يتساءلون: ماذا لو لم توافق الإدارة الأميركية على قرارات بريمر ومن شجعه من ساسة العراق الجدد على تسريح الجيش ومطاردة مئات الآلاف من الذين يحملون عضوية حزب البعث بكل الدرجات.. هل كانت الأمور في العراق آلت إلى ما آلت إليه؟

الأكثر ظرافة في دفاع بريمر هو أنه قال، بعد محاصرة الزميل طلحة جبريل له بالأسئلة عن قرار اجتثاث البعث وكيف أن هذا القرار طبق بتشف وروح انتقام غرائزية حتى في سلك التدريس، قال: «نعم كان خطأ، كنا نتعرض لضغوط من السياسيين العراقيين لمنحهم صلاحيات حول اجتثاث البعث». ثم يقول بعد مرافعة طويلة عن مسببات وحيثيات اجتثاث البعث وأنه كان مفيدا، لكن الخطأ كان في التطبيق، قال: «في نهاية الأمر كان قرار منح اجتثاث البعث للسياسيين العراقيين عملا خاطئا».

هذا الدفاع عن النظرية والاعتذار عن التطبيق، يشبه كثيرا حديث بعض أصحاب الأيديولوجيات الشمولية والمبشر بها باعتبارها مالكة لأزمة الحقيقة والحل الكامل العادل، حينما تطبق نظرياتهم على الأرض فيكون الحصاد علقما وحنظلا، يأتيك أحدهم فيقول: العيب في التطبيق وليس في النظرية ! وماذا يستفيد الناس من جماليات النظرية وتماسك منطقها الداخلي إذا ما كانت ثمار التطبيق التي يتذوقونها مريرة وجارحة؟

صحيح أن التشبيه مع الفارق بين نظريات سياسية وفكرية تبنت أنظمة دول وزر تطبيقها على الأرض مثل الماركسية والاتحاد السوفيتي، أو الأصولية السياسية، سنية كانت أم شيعية، وتطبيقات إيران وطالبان والسودان، صحيح أن ثمة فارقا كبيرا بين «قرار» إداري سياسي ضخم مثل اجتثاث البعث، وتلك «الحالات» السياسية الكبرى، لكن هناك رابط تشبيه واضح يتجلى في الفصام المكتمل بين جمال النظرية وقبح التطبيق.

ما من شك في أن كتاب العراق كان سيكون مختلفا جدا عن الصفحات السوداء التي نرى، لو لم تحصل أخطاء التطبيق، التي اعترف بها بريمر ـ على الأقل في قصة اجتثاث البعث ـ أو حتى في قصة تسريح الجيش التي أبى بريمر أن يعترف بوجود خطأ في تطبيقها.

يذكرنا هذا بقصة التاريخ البديل المبني على السؤال البسيط هذا: ماذا لو لم يحصل كذا؟

مثلا: ماذا لو أصابت الرصاصة الرئيس جمال عبد الناصر في منشية البكري بالإسكندرية في بدايات حكم الضباط؟ وماذا لو لم يسلم الملك فاروق بالهزيمة وأمر الحرس الملكي والقوات البحرية وحرس الحدود ونصف الجيش تقريبا بالمقاومة ودحر العسكر المتمردين؟ ماذا لو لم يمت الملك غازي في العراق بحادث سيارة وهو شاب، وطال به العمر وحكم حتى كبر ابنه فيصل الثاني واشتد عوده وتحالف مع ابن عمه في الأردن؟ ماذا لو لم يحل الشيخ أحمد الجابر الصباح المجلس التشريعي في 1938، وسن الدستور منذ تلك اللحظة التي لم يكن فيها للتيارات الأصولية قوة، وأعطيت التجربة السياسية الشعبية حقها من التطبيق حتى نضجت، هل كانت التجربة السياسية معرضة للهزات والاختراقات عليها مثلما هو الآن؟ وماذا لو تأخر الموت بالإمام أحمد يحيى حميد الدين ولم يستلم الحكم بعده ابنه «البدر» في عز اشتداد الثورة على الحكم الإمامي، هل كان تصرف وسياسة الإمام أحمد سيكونان مختلفين عن البدر وعليه لن تنجح الثورة وسيحبطها كما أحبط من قبل ثورة ابن الوزير وثورة الثلايا؟ وماذا لو تم إسعاف الشيخ حسن البنا يوم أطلقت عليه الرصاص يد في الظلام وظل ينزف لساعات، هل لو طال العمر بالبنا كان سيقود تحولا أكثر اعتدالا داخل صفوف الإخوان ؟ ماذا لو استجاب الرئيس عبد الناصر لشفاعات عربية كثيرة في سيد قطب وعفا عنه ورفع حكم الإعدام، هل كان قطب سيتحول إلى «الشهيد الملهم» وتنسج الحكايات حول سبابته الشهيرة وتتحول «انطباعاته» وصرخاته الرومانسية حول الحاكمية ودولة الجاهلية إلى إنجيل لكل المتطرفين الإسلاميين من الحشاشين الجدد؟ ماذا لو أن صدام حسين قبض على الخميني يوم كان الأخير مقيما في النجف يطلق المعارضة لحكم الشاه، هل كان ملالي طهران سيحكمون قبضتهم على كل شيء وتقوم الحرب العراقية الإيرانية؟ ماذا لو أن الكويت أسقطت الديون عن عراق صدام حسين وسحبت منه حجة الغزو؟ وماذا لو أن بشير الجميل لم يتم اغتياله بعيد تنصيبه رئيسا في لبنان، وظل سنين في كرسي رئاسة الجمهورية، هل كان مصير مسيحيي لبنان سيتغير، وهل كان ميشال عون موجودا الآن؟ وماذا لو نجح الجنرال بوفقير في خطته الشهيرة للانقلاب في المغرب؟ وماذا لو لم يسارع الملك فهد بالموافقة على الاستعانة بقوات أميركا في طرد صدام من الكويت، ماذا لو استجاب لمقترحات بعض العرب في الحل العربي؟ هل كانت الكويت موجودة الآن؟ وماذا لو قبض على جهيمان وجماعته قبل أن يدخلوا الحرم المكي ويتحولوا إلى قضية شهيرة، هل كان وضع المجتمع السعودي وانفتاحه أو انغلاقه سيتغير؟

وأخيرا ماذا لو لم يفز جورج بوش بالانتخابات الأميركية الأولى وفاز المرشح الديمقراطي، هل كان وضع العالم سيتغير، وكيف كان الرئيس الديمقراطي سيتعامل مع هجمات 11 سبتمبر؟

فائدة مثل هذه الأسئلة هو تنشيط التفكير وتجريب الاحتمالات الأخرى، واستشراف الذي سيحدث في المستقبل، فما جرى أو روي لنا عن ما جرى، ليس إلا وجها من وجوه التاريخ الكثيرة، ولذلك نشط أدب «التاريخ البديل»، روائيا على الأقل، فنجد «دان براون» يفترض تاريخا بديلا للرواية المسيحية من خلال «شفرة دافنشي» التي أقامها على راوية مناقضة تماما ومفترضة وجود قصة أخرى في بطن القصة الظاهرة.

بكل حال، يظل الجدل طويلا حول من يحرك التاريخ ومن يحدد اتجاهاته، هل هي حتميات تاريخية أم اجتهادات وبطولات فردية، أم حتى حوادث صغيرة تحدد مسار أشياء كبيرة، هل نحن من يصنع التاريخ أم التاريخ هو من صنعنا؟ وما نحنا إلا مرايا تنعكس عليها صورة الحقيقة، حقيقة الحتمية التاريخية المنطلقة مثل السيل لا يردها حجر ولا شجر ؟

جدل قديم وجديد، ولكن الأكيد هو أن بعض الحوادث الصغيرة والقرارات التي تبدو إدارية وتفصيلية لو لم تحدث لكانت هناك روايات أخرى للتاريخ، ومن أجل ذلك يجرب الإبداع والخيال ارتياد الاحتمالات الأخرى للتاريخ.. فجربوا هذه الرياضة الخيالية الممتعة والمذيبة لكثير من شموع الوهم.

[email protected]