تركيا والشرق الأوسط

TT

الشرق الأوسط، والمنطقة العربية في قلبه، لا يقبل أبدا إلا المشروعات الكبيرة، وهناك دائما حديث عن المشروع الإسرائيلي و«الحقبة الصهيونية»، أما المشروع والعصر الأمريكي فهو صالح لكل الأوقات، وفي أيامنا هذه فإن المشروع الإيراني بات ملحا ومقلقا، وكأن كل ذلك ليس كافيا فإن تصريحات أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا عن السياسة الخارجية التركية ووصولها إلى حيث كانت في الماضي جرى نعته بالعثمانية الجديدة وهو تعبير يكفي لكي تشع أضواء فيها رعب أحيانا وحنين في أحيان أخرى. ولكن الماضي لا يعيد إنتاج نفسه، ودائما هناك جديد تحت الشمس، ولمن يريد الحركة في المستقبل فإن الرصد واجب، والمراقبة ملحة، لمخاطر وفرص، تأتي من تحركات قوى ودول.

وهذه المرة فإن موضوعنا هو تركيا حيث يشيع هذه الأيام في منتديات عامة متعددة الحديث عن «الدور» الشرق أوسطي لتركيا، وهو يثار عادة ليس من باب الحديث عن تركيا، وإنما الحديث عما يسمى بتراجع الدور العربي أو على وجه التحديد أدوار مصر والسعودية، فيكون هناك حسد وحسرة متولدة عن مقارنة مقصودة. ولكن هذه الزاوية ليست الوحيدة في الساحة، فهناك من هو متحمس لما يسمى بالعثمانية الجديدة، وهو حماس يأتي أحيانا من دوائر إسلامية تريد أن تغمض عيونها وتفتحها فإذا بدولة الخلافة تعود في شكل من الأشكال؛ ويأتي أحيانا أخرى من دوائر قومية تريد أن تجد قوة إقليمية مناهضة لإسرائيل أو لإيران حسب الموقع الذي تقف فيه. فلو كنت في المشرق العربي فسوف يعجبك بشدة موقف رئيس وزراء تركيا أردوغان عندما ترك مقعده محتجا في مؤتمر دافوس للمنتدى الاقتصادي العالمي منذ شهور على أنه لم يعط فرصة أكبر لنقد الموقف الإسرائيلي من غزة؛ ولو كنت في الخليج لوجدت في تركيا قوة سنية تقف في مواجهة إيران الشيعية؛ وما بين المدرستين الإسلامية والقومية صلات وقرابة.

ولكن أيا كانت الزاوية التي تنظر منها فإنها تعبر عن تواجد تركي متزايد في منطقتنا، وهناك من التصريحات والتعبيرات والظواهر التركية التي تعطي لكل صاحب وجهة نظر مبررات وبراهين. ولكن كل ذلك، كما هي العادة، يأخذ أقدارا من المبالغة التي لا تضع الأمور في نصابها الصحيح فيكاد بعضنا يظن أن تركيا صارت طرفا أساسيا في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ويظن بعضنا الآخر أن تركيا قد خرجت من عباءتها الغربية وأصبحت واحدة منا، لها ما لنا وعليها ما علينا، وفي سبيل ذلك فإن غض البصر عما يخالف ذلك يصير أحيانا من حسن الفطن، أو نوعا من البهلوانيات السياسية التي تغفر لتركيا ما لا يمكن غفرانه لبلدان أخرى. فكثير من المتحدثين بإيجابية عن الدور التركي لا يجدون غضاضة قط في العلاقات التركية الأمريكية حيث تركيا عضو في حلف الأطلنطي، وحيث يوجد على أراضيها أهم القواعد العسكرية الأمريكية في العالم، وبعد زوال الاتحاد السوفيتي فإن توجه هذه القواعد هو نحو منطقتنا أو الشرق الأوسط في عمومه ولا مكان غيره تنطلق الطائرات من قاعدة أنسرليك الجوية؛ ومع ذلك فإن نقد مصر والسعودية نظرا لعلاقاتها مع الولايات المتحدة أكبر وأكثر قسوة من ملاحظة كل ذلك فيما يخص تركيا. وهؤلاء ذاتهم لا يجدون مشكلة في علاقات تركيا مع إسرائيل، وهي علاقات واسعة ثقافية وتجارية وعسكرية وسياحية وإستراتيجية وأمنية، ومع ذلك فإنها نادرا ما لقيت عجبا من المثقفين المصريين والعرب بينما تتكسر قلوبهم كمدا إذا ما زار القاهرة موسيقي إسرائيل مؤيد للحقوق الفلسطينية.

ولكن بغض النظر عن هذه المقارنة فإن البحث في الدور التركي مطلوب، وربما كانت نقطة البداية فيه هي التطور الذي جرى في الدولة التركية ذاتها حينما زال التناقض بين استقرار العلمانية والدولة المدنية في تركيا، والرغبة الإستراتيجية في اللحاق بالعالم الغربي من ناحية، مع وجود مؤسسة عسكرية مسيطرة ومهيمنة من جانب آخر. وقد زال هذا التناقض تدريجيا منذ مطلع الثمانينيات حيث أدى التراكم الرأسمالي التركي خلال السبعينيات (وكان جزءا كبيرا منها راجعا للمقاولات الكبيرة في منطقة الخليج في أعقاب الثورة النفطية) إلى اتساع الطبقة الوسطى التركية. ومن خلال قيادات مثل ترجوت أوزال وسليمان ديميريل ورجب طيب أردوغان جرت عملية اقتصادية تجعل تركيا من الدول الصاعدة عالميا بطبقة صناعية ناهضة، وعملية سياسية قلصت من جانب دور المؤسسة العسكرية دون القضاء عليها، وأعلت من دور المحكمة الدستورية العليا، ونجحت في تقليص دور العناصر الإسلامية المتطرفة التي انسحبت إلى أحزاب وجماعات هامشية، وأعلت من دور العناصر المعتدلة والديمقراطية داخل حزب العدالة والتنمية لكي تخلق نواة الأحزاب الإسلامية الديمقراطية. ومن المؤكد أن التزام تركيا بمتطلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أعطاها دفعة قوية على مستويات عدة حتى ولو ظلت أوروبا مترددة في قبول الانضمام التركي بالعضوية الكاملة للاتحاد، حيث لم يفت ذلك في عضد النخبة التركية بل جعلها أكثر إصرارا على اللحاق بأوروبا واقعيا حتى ولو تأخر الانضمام الرسمي.

هذه الأرضية الداخلية أتاحت تجاوبا أكبر مع تغيرات كبرى في الساحة الخارجية، فقد ترتب على انهيار الاتحاد السوفيتي مخاطر وفرص لتركيا؛ فكانت المخاطرة كامنة في فقدان أهمية تركيا الإستراتيجية بالنسبة للغرب مع زوال العدو الشيوعي الأكبر، ولكن الفرصة كانت في أن «العالم التركي» اتسع اتساعا كبيرا باستقلال الجمهوريات السوفيتية الواقعة في المجال الثقافي والتاريخي للدولة التركية، وأطلقت العنان لقدرات عسكرية واقتصادية تركية كثيرة كانت مخصصة للتعامل مع الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو. وكان ذلك كافيا لكي يعطي لتركيا مجالا أكبر في الحركة في منطقة الشرق الأوسط خاصة حيث كانت هناك احتياجات إستراتيجية تركية في العراق، وفي بترول الخليج، وفي المشرق العربي حيث القرب الجغرافي والصلات التاريخية ومصادر للفرص والقلق. وكان كل ذلك أرصدة تجمعها تركيا خدمة لغرضها الأكبر في اللحاق بالعالم الغربي عبر نوافذه الكثيرة فهي عضو في حلف الأطلنطي، وعضو في مجلس أوروبا، ومنظمة التعاون الاقتصادي للتنمية ومجموعة الدول العشرين، وهي لها صلات خاصة بالاتحاد الأوروبي وبقي لها مهما طال الزمن الوصول إلى العضوية الكاملة.

ولكن تركيا لا تستخدم فقط أرصدتها في الشرق الأوسط الموسع والممتد إلى أواسط آسيا في ساحاتها الأوروبية والغربية، وإنما هي أيضا تستخدم أرصدتها الغربية في ساحاتها الشرق أوسطية، حيث تكون علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل واحدة من الأدوات التي تتيح لها مرونة واسعة وقدرة هائلة على الاتصال بل وحتى موارد مخابراتية ومعلوماتية تعطيها قدرة على الحركة السياسية والدبلوماسية في المنطقة. فما جرى إذن بالنسبة لتركيا لم يكن محض صدفة، وإنما هي عملية منظمة قامت بها النخبة التركية لكي تعطي لتركيا موارد ومصادر تستطيع بها أن تقوم ليس فقط بدور إقليمي، وإنما أن يكون هذا الدور سندا للتطور التركي بحيث تنتقل تركيا من كونها دولة شرق أوسطية متخلفة إلى دولة غربية متقدمة.

ولكن هذا الجهد لا يخفي نقاط ضعف خطيرة لا تزال لدى تركيا وتمنعها من عملية اللحاق هذه بالعالم المتقدم، فلا يزال عدم اعترافها بالمسـألة الكردية في كافة أبعادها مستنزفا لها من النواحي السياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية، كما أن انقسامها الحاد ما بين غرب متقدم وشرق متخلف في الأناضول يجعلها أقرب للبلدان النامية منها إلى البلدان المتقدمة بل ويشجع حركات قلقة في الغرب التركي للعمل من أجل الإفلات من مصير المتخلفين في الشرق، وهؤلاء ذاتهم لا يتحمسون كثيرا لدور تركيا في الشرق الأوسط لأنه يحمل مخاطر استدراجها إلى عوالم قديمة ومتخلفة. ورغم التقلص النسبي للمؤسسة العسكرية فإنها لا تزال حاضرة ومؤثرة ومخالفة من ثم للتقاليد الأوروبية، وأخيرا فإن مشكلة قبرص تبقى حاجزا وحائلا كبيرا بين تركيا والاتحاد الأوروبي. كل ذلك يضع حدودا على الدور التركي لا يجوز تجاهلها في حساب موازين القوى لمن يريد العلم والحساب؟!