السعوديون وعقلانية التغيير

TT

يمثل الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة تحول تاريخية للمملكة العربية السعودية، حين وُضعت السعودية ممثلة بدينها وتراثها وقيمها، أمام تحدٍّ كبير، كونها وجدت نفسها في عين عاصفة الإرهاب. لقد كانت تلك الحادثة، اختبارا حقيقيا للقيادة السعودية، ودبلوماسيتها، وسلامة منهجها والثبات عليه.

فما تعرضت له السعودية من ابتلاء، هو من التحديات والمحن التي تسري على الدول والحضارات، كما تسري على بني الإنسان. قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ». إنها سُنّة من سنن الله في خلقه، إلا أن قدرة القيادة السعودية على مواجهة ذلك الكبَد، وإدارته باقتدار، وعقلانية مسؤولة، تُمثل فنا في القيادة، لا يجيده إلا العظماء من الرجال.

كما لا بد أن نقر أيضا بأن التحديات في مراحل بناء الدول والتعامل مع العالم، لن تنقطع بل ستبقى مستمرة، إلا أنها تختلف باختلاف نوعية تلك التحديات وطبيعتها. فقد أملى علينا دهاء التاريخ أن الأحداث قد تتكرر، ولكن بأشكال وصور مختلفة.

إن من تلك التحديات التي تواجهها السعودية حاليا، والتي لا يمكن أن تنفك عن تداعيات الحادي عشر من سبتمبر، مسألة الإصلاح والتغيير، فقد توقفتُ كثيرا أمام ما يطرح في الساحة السعودية، من دعوات للإصلاح والتغيير، والسجال الدائر حول مفهومه، ولطالما وجدت نفسي أحيانا كثيرة أقف بين المنزلتين، منزلة الرفض ومنزلة القبول، مما ساعدني كثيرا على اتخاذ المنهج العقلاني، الذي أتوخاه لفهم الطرفين، واستجلاء المواقف، فنحن فعلا أمام تحدٍّ كبير، ألا وهو تحديد المسار، ما بين دعوات تطالبنا بنسف ماضينا وتجاهل تاريخنا وما لدينا من حلول، وتنادي بحلول ترتكز فقط على معطيات ثقافية وسياسية معينة، تختلف اختلافا جذريا عن ثوابتنا، أو تلك الدعوات التي تطالبنا بالانكفاء على الذات، والبحث عن الحلول في تاريخنا وتراثنا الإسلامي فقط، وغلق النوافذ والأبواب مع العالم.

إن تلك الدعوات لن تسهم في الإصلاح والتغيير المنشود والمستدام، بل قد تعرّضنا في المستقبل لدوامات سياسية واجتماعية واقتصادية غير منظورة، مما يعني أن المصلحة تحتم علينا البحث في ما لدينا، وفيما عند الآخرين، من نواة للإصلاح والتغيير، والعمل على إنضاجها وتنميتها وتكييفها وفق متطلباتنا الدينية والسياسية والاجتماعية، بعيدا عن التجاذب الفكري، المتطرف والمعيق، وهذا فن من فنون الإدارة والقيادة، يحتاج إلى عقول مرنة، قادرة على الاقتباس وإدماج الأفكار والطرق، والأساليب المختلفة والمتباينة، وكذلك المهارة في ترتيب الأولويات الإصلاحية.

بل وفوق ذلك كله، فن الإقناع، لكسب العقول والقلوب، وهذا لن يتحقق بالجهود الفردية هنا وهناك، بل لا بد لنا من العمل المؤسسي العلمي المتقن والمتخصص، تعززه مرونة ذهنية، قادرة على إدراك الفرق بين ما هو موجود لدينا جراء التزامنا بالأوامر الشرعية، وبين ما هو موجود نتيجة عادات وتقاليد، تشكلت في ظروف واعتبارات تاريخية معينة.

وكما نحن مطالبون بالمرونة، فنحن أيضا مطالبون بالفهم الصحيح للتاريخ، للاستفادة منه ما أمكن في تحديد المسار، فقراءة التاريخ والاعتزاز بما فيه من جوانب مضيئة، لها أهمية بالغة في زرع الثقة والانتماء لدى الأجيال المتعاقبة، وفي اختصار المسافات في بناء مشروعنا، والمحافظة على هويتنا، وتفسير حاضرنا واستشراف مستقبلنا.

وقد نستخلص من التاريخ دروسا، ومن أهمها أننا مهما قدمنا من قرابين للمنادين بنبذ الماضي، أو للمنادين بالركون إليه دون سواه، فلن نُترك وشأننا، لأن هناك من يرصد أخطاءنا ويتمنى فشلنا ويحلم بانتكاسنا.

إن المرحلة المقبلة وما تحمله من تحديات، هي أكبر بكثير مما نحن عليه الآن، مما يتطلب منا النظر بعقلانية واعية إلى الخسائر والمكاسب، في دعواتنا للإصلاح والتغيير.

ونحن على يقين بأن القيادة الراشدة التي أبحرت بنا إلى بر الأمان بعد الحادي عشر من سبتمبر قادرة، بإذن الله، على رسم خارطة طريق آمنة لدولتنا، لتحقيق مشروعها الحضاري، من خلال عقلانية التغيير تلك.

[email protected]