نحو رأب الصدع بين المغرب والجزائر

TT

المغاربة الذين ولدوا بعد 1975، سنة تحرير الصحراء، وهم يزيدون على 17 مليونا، لا يعرفون عن الجزائر إلا أنها بلد مناوئ لهم، وهم ليسوا مثلي من المخضرمين الذين خفق قلبهم يوما لجزائر شقيقة نقاسمها السراء والضراء.

أما مغاربة ما بعد 1995، الذين فتحوا أعينهم على حدود مغلقة، فإنهم لم يسمعوا إلا أن تلك البلاد الشقيقة تصد عن كل دعوة لفتح تلك الحدود. وسمعوا وشاهدوا كيف أنه حينما تقدم المغرب بخطوة مهادنة، بأن قرر رفع التأشيرة بالنسبة للجزائريين، اشتد النكير من الجزائر التي أعلنت، في غضب، رفضها للمعاملة بالمثل لمدة شهور، وكأن إلغاء التأشيرة من جانب المغرب، كان مقدمة لشن الحرب.

إن النخبة المغربية منشغلة بهذا الوضع، وهي ترى أن حربا من أجل السلم يجب أن تستمر إلى أن يستسلم الطرف الآخر فيعلن الاقتناع بأن القطيعة يجب ألا تدوم. وهي حرب أداتها خطاب المناشدة، من أجل ألا تؤدي خلافات الحاضر إلى الإساءة للمستقبل، لأن التمادي فيها يسمم العلاقات بين الأجيال القادمة. وهي حرب يجب أن يشارك فيها اتحاد كتاب المغرب بتكثيف الانفتاح شرقا، وكذلك منظمو المهرجانات الموسيقية والسينمائية، بالحرص على إحضار فاعلين جزائريين في كل مناسبة. حرب قوامها، وهنا أستعير عبارة جميلة وموحية للزميل ع.ح. جماهيري، «حب شديد اللهجة».

على أن الصدود الكبير من الجانب الآخر، يجد مبرره النظري في تعلق أفلاطوني بمبدأ مقدس هو حق الشعوب في تقرير المصير، وهو أمر يجب أن يتبلور، بالذات، في إقامة دولة مستقلة في الأقاليم الصحراوية المغربية.

وقد وقعت محاولة فرض هذا المفهوم المتعسف لمبدأ تقرير المصير طيلة ما يقرب من أربعين عاما، كجواب على «المقاربة الواقعية» التي تبناها المرحوم الحسن الثاني لمعالجة مسألة الحدود التاريخية، وهي مقاربة أخذت مجراها منذ السبعينات، بدءا من الانفتاح على موريتانيا، ولقاءي إيفران وتلمسان مع الجزائر، وذلك قصد التفرغ إلى إقامة علاقات سوية مع إسبانيا قوامها ـ وفق الخطة الحسنية ـ الحوار وتبادل المنافع.

وقد برزت ردود الفعل على ذلك في رحاب محكمة لاهاي، حيث تقمص السيد البجاوي، دور المدافع عن الشيطان، وتصدى لذلك في مناسبة نادرة في تاريخ تصفية الاستعمار، إذ وقف ناطق باسم بلد من دول الجنوب إلى صف دولة مستعمرة لكي يترافع عن نظرية «الأرض الخلاء».

والآن بعد الهجمة الودية العارمة التي تابع بها محمد السادس انفتاح المغرب على الجزائر، ضمن سياسة إقليمية مهادنة، كانت قد لاحت في الأفق علامات كان المغرب هو صانعها، صورت وكأن حضور العاهل المغربي في القمة العربية بالجزائر، في مارس 2005، وهو الزاهد في حضور القمم العربية، ربما كان تمهيدا لصحو في العلاقات بين الرباط والجزائر، خاصة وأن الرئيس بوتفليقة كان قد حصل على بوليصة تأمين في سياق التجديد له منذ نحو عام قبل ذلك.

كان المصورون قد التقطوا مشهد ذلك اللقاء الباسم بين العاهل المغربي والرئيس الجزائري، وخلدوه للتاريخ كمصافحة مبشرة حدثت في ذلك اللقاء العربي. وظن الناس الظنون، ولكن كشفت تطورات تتالت بسرعة عن أن ذلك اللقاء كان حدثا عابرا. ففي ليلة انعقاد القمة المغاربية، التي كانت مقررة في طرابلس في شهر مايو التالي، أصر الرئيس الباسم في الصور مع محمد السادس، والمتدفق باندفاع في رسائله إليه، على أن يكون هو المعلن عن إجهاض الأماني، فبعث برسالة طويلة الذيل إلى قيادة البوليزاريو، وعد فيها بأن يكون لقاء طرابلس، «قمة استثنائية لصالح الشعب الصحراوي». فلربما كان يمني النفس بالحصول على نتيجة ما مثيرة.

وكانت تلك الخرجة الإعلامية مبرمجة، حتى يشعر كل مهتم ومعني بأنه لا سبيل إلى انتظار الانفراج في الاتجاه الذي كان منتظرا. غير أن الخيبة لم تعد مقتصرة على الإطار الثنائي المغربي الجزائري، بل أصبح الوضع يعني أن هناك استعدادا لإفساد المسيرة المغاربية بدورها، في أفق تغيير معاهدة مراكش، إذ ترى القيادة الجزائرية أن تلك المعاهدة لا تتجاوب مع نظرتها هي إلى نفسها وإلى المنطقة. ويتعلق الأمر في الأساس بفرض دولة سادسة في المنظومة المغاربية وفقا للمبدأ المقدس المومأ إليه آنفا.

وطبقا لنفس المبدأ المقدس، هاجم مندوب الجزائر في الأمم المتحدة منذ عام كلا من واشنطن وباريس ومدريد باعتبارها جميعا مسؤولة عن «تأخير» حل مشكلة الصحراء، أي إقامة دولة صحراوية. وطيلة 2007 و2008 صب الإعلام الجزائري جام غضبه على ساركوزي وثاباطيرو لأنهما يؤيدان المشروع المغربي.

ويحظى موقف المغرب بالعطف في مدريد وباريس، لأنه سواء كان اليمين أو اليسار في الحكم، فإن الساسة هناك، كما هو الشأن بالنسبة لسائر لاتحاد الأوروبي، يستحسنون السياسات الواقعية المعتدلة للمغرب سواء بالنسبة لملف الصحراء أو غيره. ونفس الشيء يمكن تأكيده بالنسبة للعواصم العربية.

إن امتناع الساسة الجزائريين عن فتح الحدود بين المغرب والجزائر يجدد التشاؤم من حدوث انفراج بين البلدين في وقت قريب. كما أن تمسك سدنة المبدأ المقدس إياه بتصورهم، من شأنه أن يؤدي إلى قلب الطاولة المغاربية. ومعنى هذا أنه سيطول أمد أداء فاتورة تكلفة اللامغرب، المتمثلة بشكل مباشر في ما يكلفه بقاء ملف الصحراء مفتوحا من نفقات هي في أغلبها غير مجدية. وقد قدر كاتب جزائري كان ضابطا في الجهاز العسكري هو أنور مالك، أن الجزائر أنفقت على ملف الصحراء ما لا يقل عن 200 مليار دولار. وليست تكاليف الصحراء بالنسبة للمغرب بقليلة، ولكنها تدخل في تكاليف السيادة، وفي الأعباء التي يقتضيها البناء الداخلي.

وينبغي إذن أن يدخل في حساب كلفة اللامغرب، ما ينفق الآن في غير محله، وكذا الخسارات التي تتكبدها دول المغرب العربي بسبب التفريط في مزايا التبادل والتعاون، ثم إضاعة الفرص المتاحة لبناء المستقبل المشترك.

هناك حالة تصعيد خطير. وقد أصبحت المواجهات بين المغرب والجزائر هي ملح الاجتماعات الدولية، حتى ولو تعلق الأمر باجتماع عالمي لطوابع البريد. وهناك مسلسل لا يسلى يتمثل في إقدام دول صغيرة على سحب الاعتراف بالبوليزاريو ثم التراجع عن السحب، ودائما على حساب هذا الطرف أو ذاك.

الأخطر من هذا وذاك أن هناك من يتعهد تثبيت حالة عداء جزائري نحو المغرب ليس لها مبرر. وحالة التصعيد هذه يجب التنبيه إلى خطورتها حالا واستقبالا.

إن المسؤولين الجزائريين لا يكفون عن ترديد أنهم لا يرون طريقا آخر لحل مسألة الصحراء إلا على أساس وحيد لا يوجد غيره هو إقامة دولة في الأقاليم الصحراوية المغربية. وهذا ما تضمنته رسالة من الرئيس بوتفليقة إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 3 أغسطس سنة 2004. وفي تلك الرسالة وصفت الجزائر المملكة المغربية بأنها قوة احتلال. وفي مناسبات أخرى تحدثت الأدبيات الجزائرية عن بعض الأنشطة المناوئة للمغرب بأنها «انتفاضة» وذلك باستعارة قاموس أفرزته مواقف نبيلة لقضية هي مقدسة حقا. بل حدث أن انبرى مندوب للجزائر في الأمم المتحدة، ليحرض مجلس الأمن على اتخاذ عقوبات صارمة لردع المغرب المتنطع للقرارات الدولية، كما تفهمها الجزائر.