نحو المثالثة البرلمانية

TT

مهما اجتهد أرباب السياسة في لبنان وجدّوا، ومهما طرحوا من برامج انتخابية منمّقة.. تنضج استراتيجياتهم الانتخابية بالشخصانية والفردية.

واضح أن قلة قليلة من المرشحين للانتخابات اللبنانية تخوض معركة «قضية» أو«مبدأ» في معركة يصفها الجميع بالمصيرية، فيما الأكثرية الساحقة تغوص في صراع زعامات شخصية في مناطقها.. وخارجها إن تيسّر ذلك.

لا يحتاج أي مراقب للمعركة الانتخابية في لبنان إلى كبير عناء ليكتشف أن تشكيل العديد من اللوائح لم يعتمد على الخط السياسي الواحد ـ بغض النظر عن ماهيته ـ بقدر ما اعتمد، أولا، على الولاء المتوقع من المرشح لزعيم اللائحة، حتى على حساب ما يعرف بـ«الحيثية الانتخابية» لهذا المرشح، أي عدد الأصوات الممكن أن يجيّرها لزعيم اللائحة.. وثانيا، على ما اعتاد بعض الزعماء جنيَه من «مكاسب» جانبية حولت المواسم الانتخابية في لبنان إلى فورات اقتصادية قصيرة الأمد.

إلا أن الظاهرة الأبرز على تحكم الحسابات الانتخابية والشخصية، أو «الزعاماتية»، في عمليات انتقاء المرشحين، وأرجحية هذه الحسابات على أي اعتبار سياسي «مبدئي» في انتخابات العام الحالي، تبقى انقسام حلفاء الخط الواحد في دائرة جزين الجنوبية وخوضهم معركة المصير الواحد بلائحتين متنافستين، «حضاريا» كما أعلنوا.

أن تصبح الأولوية، في العديد من الدوائر، للتحالفات الانتخابية الظرفية مؤشرا على أن الشعار الطاغي على هذه الانتخابات «المصيرية» هو وصول بعض الزعماء إلى البرلمان بأكثر عدد ممكن من «الأزلام البرلمانيين»، وبأي ثمن كان، تعزيزا لزعامتهم الشخصية أولا.. ومن ثم التيار السياسي الذي يمثلون، الأمر الذي يفسر التأخير في اكتمال بعض اللوائح رغم أنه لم يعد يفصل اللبنانيين عن موعد الانتخابات سوى ثلاثة أسابيع.

ربما كانت تجربة دائرة جزين مرشحة لأن «تستنسخ» في أكثر من منطقة انتخابية لولا استمرار حماوة المواجهة بين فريقي «14» و«8» آذار في عدد من الدوائر الحساسة سياسيا. إلا أن هذه التجربة لا توحي بأن الاصطفاف السياسي القائم حاليا بين فريقي «8» و«14» آذار مرشح للاستمرار بعد الانتخابات، خصوصا إذا تحققت استنتاجات بعض استطلاعات الرأي عن أن الفارق بين الأكثرية والأقلية في المجلس النيابي المقبل لن تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأن عددا من المرشحين «الوسطيين» أو «المستقلين» سوف يخرق الاستقطاب الثنائي القائم بين فريقي «8» و«14» آذار.

على خلفية هذه التوقعات، يكفي وجود عدد ولو محدود من النواب «الوسطيين» في البرلمان المقبل لقلب المعادلة النيابية الراهنة وللعب دور «بيضة القبان» في ترجيح الأكثرية المقبلة في البرلمان الجديد. عندئذ يصبح واردا قيام حالة «مثالثة نيابية» تكسر الاستقطاب السياسي بين «8» و«14» آذار.. وتعطي رئاسة الجمهورية هامش حرية أوسع في تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات، واستطرادا في فك ارتهان الدولة لأحكام «الثلث المعطل».

قد لا يكون مستبعدا ربط احتمال تجاوز حالة الاستقطاب السياسي الراهن في لبنان بالتأكيدات المتكررة للإدارة الأميركية الجديدة بأن أي سياسة انفتاح قد تمارسها واشنطن حيال إيران أو سورية لن تكون على حساب لبنان، الأمر الذي يؤكد بأنه أصبح للبنان الآن في واشنطن «ملف» خاص به، منفصل عن ملف «الإرهاب» الذي كانت تحشر فيه إدارة بوش، «بالجملة»، كل مشاكلها في الشرق الأوسط.

ربما يبدو ربط التحولات المتوقعة على الساحة اللبنانية الداخلية بالموقف الأميركي المستجد من فصل ملف لبنان عن ملفات جيرانه ضربا من التخمين المبالغ به.

ولكن ما يحضر في واشنطن من خطة شاملة لإحلال سلام دائم في الشرق الأوسط، ومنصف للفلسطينيين بالدرجة الأولى، وما سيستتبعه هذا التطور من تعزيز لموقع الدول العربية الموصوفة بالمعتدلة.. يسمح بتوقع تحول لبنان إلى دولة أكثر قدرة على ممارسة استقلالها عن ذي قبل، إن لم يكن إلى دولة مرشحة للعب دور ملحوظ في سلام الشرق الأوسط.