أخطار الحرب.. ومخاوف السلام

TT

فوجئ الصحفيون بتعليق وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط على زيارة نتنياهو لمصر، وكذلك مقابلته في مجلة روزا اليوسف قبل أربعة أيام. إذ ركز في التعليق والمقابلة على أمرين: أهمية إيران بالمنطقة، وسلمية برنامجها النووي حتى الآن. فالحضارة الإسلامية لها ثلاثة محاور: إيران الفارسية، وتركيا الطورانية، والعرب المسلمون! أما التعقيدات الناجمة عن الاشتباه في برنامجها النووي فإن الحكم فيها وعليها يبقى لوكالة الطاقة الدولية، وللمجتمع الدولي. وهما لم يعلنا حتى الآن أن البرنامج الإيراني عسكري يطلق سباقا لامتلاك أسلحة دمار شامل بالمنطقة. ولذا لا يجوز لأي طرف أن يغير أو يهدد بالإغارة على إيران، لأن إيران عزيزة على المسلمين، ولأن الاعتداء على إيران يخلق تعقيدات لا نهاية لها! وكل هذه «الاستنتاجات» منصبة على التعليق على زيارة نتنياهو لمصر وأهدافها. وقد أشار نتنياهو بالفعل في مؤتمره الصحفي إلى خطر النووي الإيراني، وقال إن المشكلة بالمنطقة هي بين العنف والتطرف، ومن يريدون السلام من طرف آخَر. وهكذا فالذي يبدو أن جانبا كبيرا من حديث نتنياهو بمصر ـ كما كان متوقعا ـ إنما انصب، ليس على النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ولا على المبادرة العربية للسلام، بل كان هدفه إبراز مخاطر «التطرف الإيراني» على المنطقة، ودعوة العرب للتعاون مع إسرائيل في مكافحته! وكانت ردة فعل مصر كما هو متوقع أن النووي الإيراني مشكلة، لكن حلها ليس بالعنف والحرب، بل من طريق الوكالة الدولية للطاقة، وقرارات المجتمع الدولي (مجلس الأمن)، واللجنة السداسية (دول الفيتو في مجلس الأمن+ألمانيا). وهذا موقف لافت لمصر في ظل الأزمة مع إيران (وتنظيم حزب الله السري الذي تدعمه بمصر)، ورحلة الرئيس حسني مبارك إلى واشنطن، وموقف نتنياهو المعروف من عملية السلام ومحورها منذ عامين: حل الدولتين. ذلك أن جوهر الصراع بالمنطقة يظل الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية، وتعرض حقوق الشعب الفلسطيني للانتهاك منذ أكثر من ستين عاما. وهذان الأمران هما سبب الحروب والاضطراب بالمنطقة، والذريعة الإيرانية غير الإيرانية للتدخل فيها. والتقدير الإسرائيلي الاستراتيجي منذ نحو العامين أن الخطر الأول على إسرائيل آت من إيران، وتضيف إليه الآن إن الأمرين: النووي، والتدخلات الإيرانية بالمنطقة العربية، تجعلان من الضروري أن يقوم هناك تعاون بين إسرائيل والعرب في مواجهة إيران! بيد أن هذا «التقدير» ليس أبرز وجوه استخدام إسرائيل للملف الإيراني. فهي تستخدم ذلك منذ أيام شارون تجاه الولايات المتحدة، ولغرضين: أن النووي الإيراني تهديد كبير لها ولا بد من إزالته بالحرب من جانب الولايات المتحدة أو السماح لها هي بالضربة ضد إيران. وأنها على أي حال لا تستطيع الدخول في عملية سلمية ما دام الخطر الإيراني قائما، وما دام الأصوليون المتطرفون الذين تدعمهم إيران يتربصون بها على حدودها!

وما كان من المنتظر أن تدعم مصر وجهة النظر الإسرائيلية. لكن من جهة أخرى ما كان منتظَرا أيضا أن يتحدث نتنياهو إلى مصر عن «استراتيجيته» للسلام، ما دام على مشارف رحلة إلى الولايات المتحدة للقاء أوباما. فهناك في واشنطن، وبعد شكاوى كثيرة من إيران و«الأصوليين الإرهابيين»، سوف يُضطر إلى قول شيء ما عن أفكاره بشأن العلائق بالفلسطينيين، ومفاوضات السلام. لكن رغم ذلك فقد قال نتنياهو بمؤتمره الصحفي بمصر شيءا آخَر يستحق الاهتمام، فقد ذهب إلى أن إسرائيل ستتفاوض قريبا مع الفلسطينيين، وما أجاب بشيء بشأن التفاوض مع سورية! وهذا أمر لافت، إذ اعتاد الإسرائيليون منذ أكثر من عقد على التهرب من التفاوض مع الفلسطينيين، والإقبال على التفاوض مع سورية، لإثارة الغيرة والتنافس من جهة، ولدغدغة مشاعر النظام السوري بأنه مهم، فضلا عن مكافأته لأنه لا يحدث أي مشكلة مع الدولة العبرية على الحدود المشتركة بينهما. ومن المعروف أنه ولأكثر من عام في عهد حكومة أولمرت السابقة، أجرى الطرفان السوري والإسرائيلي مفاوضات غير مباشرة بوساطة تركية. وكانت هناك تصريحات ـ على الخصوص من جانب سورية ـ أن الوصول إلى نتائج قريب بعد الاتفاق على كل شيء تقريبا. وفي تصريح لـ«نيويورك تايمز» قبل أسبوعين قال الرئيس الأسد بأسى إنه لولا حرب غزة لحصلت التسوية بين الطرفين! فمن الذي أثار حرب غزة، «للحيلولة دون تسوية بين سورية وإسرائيل»؟ وهل كان الرئيس السوري يشكو من إسرائيل أم من حماس وحزب الله وإيران؟ وهكذا فنتنياهو ـ وللمرة الأولى ـ لا يعمد إلى استخدام الورقة السورية في وجه الورقة الفلسطينية، إما لأنه لا يريد بالفعل الانسحاب من الجولان، وإما لأنه ـ شأن سائر أهل اليمين بإسرائيل ـ لا يرى أن سورية جاهزة للسلام، بل للتفاوض فقط. فالتحالف السوري ـ الإيراني ما يزال قائما، وأطراف محور الممانعة والمقاومة، ما تزال تتمركز بسورية، وتعلن عن عدم خشيتها من التفاوض السوري مع إسرائيل. والرئيس الإيراني نجاد كان بسورية الأسبوعَ الماضي وأعلن عن استمرار التحالف والاتجاه للانتصار. وقد يكون السوريون صادقين في قبول السلام في مقابل الجولان. لكن إيران تحول دون ذلك. والولايات المتحدة تصدق عدم القدرة السورية، لأنها سارعت لتمديد العقوبات على سورية والتي بدأت في العام 1998 وينظر في تمديدها سنويا. ويضاف إلى عوامل التوتر والتوتير هذه أن إسرائيل تجري أكبر مناورات عسكرية في تاريخها ما بين 1و5 يونيو (حزيران) القادم. وقد أعلن حزب الله بلبنان أن تلك المناورات قد تكون مقدمة لحرب تشنها إسرائيل على القريب أو البعيد. وهكذا تتجمع أخطار الحرب وتوقعاتها: فنتنياهو يريد استهداف إيران، ويأتي ذلك قبل التفكير بالتفاوض مع الفلسطينيين دون السوريين. وإيران بشرت الرئيس السوري باقتراب الانتصار. وسورية تسعى للاستظلال بتركيا والولايات المتحدة وحتى إسرائيل، لكنها تبقى في النهاية في الحضن الإيراني. وتعلن إيران عن استعدادات عسكرية أضافية لإقفال مضيق هرمز في حال وقوع الحرب، فتقلل الولايات المتحدة من شأن ذلك؛ لكنها تكشف عن وجود سفن حربية إيرانية وصواريخ (غير مركبة على منصاتها بعد) في بحر إريتريا! ويعود وزير الخارجية لمصري للتأكيد أن أمن الخليج مشترك بين إيران ودول الخليج، وإمكانيات مصر العسكرية بتصرف دول الخليج. والمنطق الكامن وراء هذه الاستعدادات كلها أن إسرائيل تريد القيام بعرض قوة يحميها إذا اضطرت إلى الدخول في مفاوضات سلام. وإيران (وسورية) تريدان «اختبار» نوايا الولايات المتحدة وقدرات إدارة أوباما بعد الإشارات المختلطة التي أرسلتها إدارته خلال الشهور الماضية. وسائر الأطراف محتاجة إلى «لتأديب وانضباط» في مفاوضات الانفتاح والتسويات التي تعرضها الإدارة الأميركية الجديدة بعد سنوات بوش للاضطراب والفوضى غير البناءة! والمصالحة العربية جامدة بعد أسابيع واعدة على أثر مؤتمري الكويت والدوحة. فخلال الأيام الماضية انصبت التسريبات الإعلامية على اتهام «معسكر الاعتدال» بأنه يحاول حذف بند اللاجئين من المبادرة العربية للسلام! وقد نفى الجميع ذلك وبدا أن الخبر لا أساس له، لكن وزير الخارجية السوري أصر على بقاء المبادرة العربية كما هي، بعد أن كان رئيسه قبل شهرين يريد إسقاطها وإلغاءها بحجة عدم فائدتها! وخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس عاد لاتهام خصومه بالعمالة لأميركا وإسرائيل، بينما حرص على التقرب من الولايات المتحدة، والتعهد بعدم إطلاق الصواريخ على إسرائيل.

إن هذه الاحتمالات المتواردة للنزاع والحرب أو لأحداث أمنية بارزة، تقابلها من جهة أخرى مساعي التهدئة والتفاوض. فبعد ذهاب الملك الأردني عبد الله الثاني إلى الولايات المتحدة، يحمل نصا عربيا مشتركا بشأن مبادرة السلام، سيزورها هذا الشهر كل من نتنياهو وأبو مازن والرئيس حسني مبارك. والمفهوم أن كلا من هؤلاء سوف يعرض رؤيته للأوضاع الحالية للمنطقة، ومصائر عملية السلام. كما أن المفهوم أيضا أن أوباما سيطرح بعد ذلك رؤيته التي ينبغي أن يستجيب لها سائر الأطراف التي تشاور معها. وقبل ثلاثة أيام دعا المندوب الروسي بالأمم المتحدة، رئيس مجلس الأمن لهذا الشهر، لجلسة تشاورية بالمجلس، للتأكيد على توصيات مؤتمر أنابوليس وحل الدولتين، ودعم فكرة عقد مؤتمر دولي للسلام ترعاه روسيا على أرضها. وهكذا تتسابق بوادر ومبادرات التهدئة والتوتير. بل إن عوامل ودواعي التوتر تبدو كأنما تسبق التفاوض وتريد التأثير عليه، وليس العكس. فالمخاوف والهواجس من السلام، لا تختلف كثيرا عن الهواجس والمخاوف من النزاع. وقبل خمسين عاما كتب أريك فروم كتابه المشهور «الخوف من الحرية». وهذا يعني أن الذين رتبوا أوضاعهم على أساس تجاذبات القوة في الحرب الباردة وما بعدها، صعب عليهم التعود على أوضاع الوفاق والدبلوماسية والاعتماد المتبادَل، وفي طليعة هؤلاء الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل!