اختلاط مياه الصحافة بقنوات أجهزة الأمن

TT

سميتهم «القتلة بالنوايا»؛ هؤلاء الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مخالب الأجهزة الأمنية التي تنشب في لحم زملائهم، صحيح أن الأمر ليس بجديد ولا هو اختراع عهد بعينه، فهم قد كانوا ويكونون وسيظلون في كل زمان ومكان، لكن كثرتهم وديمومتهم لا تجعلنا نعتادهم ونرضى عن وجودهم في أروقة صحافتنا لأن اختلاط مياه الصحافة بقنوات أجهزة الأمن انتهاك لميثاق الشرف الصحفي.

طبعا من حق أجهزة الأمن أن تشوف شغلها، ولكن: لا يجوز أن تتحول الصحافة إلى مرفق تابع لوزارات الداخلية في أي مكان. على عيننا ورأسنا جهود الداخلية، العين الساهرة، على حماية أمن البلاد، غير أن شغل الصحافة شيء آخر، له أهدافه النبيلة كذلك، ودوره في حماية البلاد وحقوق العباد بعين ساهرة ليس من اختصاصها ولا من وظائفها أن تحول جنودها إلى عسكر يعملون بصيغة مغايرة ومناوئة لطبيعة مهامهم. ليس من مهام الصحفي إلقاء التهم جزافا مستقويا بقربه من أجهزة الأمن يحرضها على البطش بهذا وذاك من دون قرينة، وفقا لمنهج الضربات الاستباقية ومبدأ تجفيف المنابع الذي يسحق في طريقه الأبرياء: ضحايا عشوائية الشبهة والاشتباه، وعلى نقابة الصحفيين أن تضخ الحياة في ميثاق الشرف الصحفي بعد أن تخرجه من ملفات الإماتة وتعيد به تأهيل من ينتهك مبادئه من أعضائها لإعادته إلى الاستقامة على الصحيح والسليم والسوي في العمل الصحفي.

إن الوشاية للأمن بالزملاء، بل وبالمواطنين كافة، تنتقص من قدر القائم بها والسالك في دربها والمقترف لإثمها، وتبقى وصمة في تاريخ صاحبها تلاحقه بعارها مهما طال الزمن، ولا ننسى في هذا السياق ما نشرته «الشرق الأوسط»، في عددها الصادر 15\10\2008، تحت عنوان: «محضر سري يتهم الروائي ميلان كونديرا التشيكي الأصل بالتسبب في اعتقال مواطن له عام 50»، وجاء في تفصيل الخبر ما نشرته مجلة «رسبكت» ـ وتعني الاحترام ـ لوثيقة تتهم كونديرا بتسليم الشرطة، عام 1950، شابا معارضا وقد حكم عليه بالسجن 22 عاما.. واهتم كونديرا بنفي التهمة الشنيعة قائلا: «أحتج بقوة على هذه الاتهامات التي هي محض أكاذيب.. أنا مندهش تماما من هذا الأمر الذي لم أتوقعه مطلقا وأجهل كل شيء عنه.. والذي لم يحدث أبدا.. ».

المؤكد أن السلطة التي تقبل بتحويل صحفييها ومثقفيها وأدبائها إلى كتبة تقارير الوشايات ومقالات التحريض والافتراءات تخسر أول ما تخسر تشوفها الواقعي للمخاطر التي تتهددها وتتهدد البلاد، فلم يحدث أبدا أن أفاد مرتزق سيده، فالارتزاق مفسدة لا يتولد منها إلا كذبة لا خلاق لهم لا يتأثمون من البهتان.

لقد شاهدنا جرائم اغتيال وقتل بالقلم والكلمات اقترفها البعض، وما زال هناك من يقترفها، بلا روية ولا رحمة، فوابل رصاص الكلمات انهمر وينهمر على كل نفس إسلامي يقول: إني هنا في شارع الناس ولي ثقلي وعندي للوطن أحلام ورؤية ووجهة نظر.

إن «القتلة بالنوايا» يمارسون الإرهاب بالكلمة ويستعدون السلطات على تيار في الشعب راسخ، ويسدون النصائح العرجاء الشوهاء إلى المسؤولين، أن ابطشوا وأجهضوا ولاحقوا وأقلقوا المضاجع ولا تتوانوا، ولقد آن لهؤلاء «القتلة بالنوايا»، قبل أن يكبح توحشهم ميثاق الشرف الصحافي، أن يتذكروا الآية رقم 42 من سورة القلم: «يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون»، صدق الله العظيم.