شيء أسوأ من الموت!

TT

كنا عشرين نمشي في جنازة صديق يرحمه الله. ولم يكن أحد يتوقع أن يكون هذا العدد القليل. وكانت للرجل صداقات وصراعات ومعارك سياسية وفلسفية. فلم يجامله خصومه في أن يشمتوا في وفاته. ولا أحد من الأقارب، وكنا نمشي في الجنازة مندهشين. أين الناس؟ ولماذا؟ ألم يحسم الموت كل شيء بيننا؟ واكتفينا بمص الشفاه ضيقا وقرفا. وانتهت الجنازة ولم يبق إلا خمسة: أولاده وأنا!

ولكن إيه يعني؟ الرجل مات وهو لا يدري. ويستوي أن تكون له جنازة أو لا تكون. فالذين ماتوا غرقا أو حرقا لم تكن لهم جنازة. وهو مات حرقا في نار الحقد عليه واستكثار ما أعطاه الله من مال وجاه..

وقبل ذلك جنازة الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي، كانوا سبعة ويقال خمسة. لسبب. وهو أنه في ذلك اليوم أطلق الرصاص على سعد باشا زغلول فانصرف الناس إليه، وانصرفوا عن المنفلوطي..

ويوم توفي الأستاذ العقاد سرنا وراءه في غاية الحزن والأسى. وفجأة توقفت الجنازة. وحاول الناس أن يدفعوا النعش إلى الأمام. لم يستطيعوا. وإنما كان النعش يقاوم ويدور حول نفسه. وسألت الأديبة د. نوال السعداوي، وكانت مديرة مكتب وزير الصحة: هل جنازة ابنته تحركت؟ فقالت: لا.. فطلبت منها أن تتحرك لأن نعش العقاد لا يتحرك بالقوة. ولما تحركت جنازة ابنة العقاد تحرك نعش العقاد متجها إلى بلده أسوان ـ وكانت ابنته (بدرية) عندما عرفت بوفاة والدها انتحرت!

لا أعرف تفسيرا. ولكن هذا ما حدث. ومعلوماتي من الدرجة الأولى. ثم إنني كنت أحد الذين يشاركون في حمل نعش الأستاذ العقاد. وكنا نقاوم ونحاول بكل ما لدينا من قوة. كيف؟ لا أعرف!

يوم توفي الأستاذ توفيق الحكيم، كان لا بد أن نحمله إلى الإسكندرية ليدفن هناك، وذهبت مع وزير الثقافة د. أحمد هيكل في طائرة حربية. وهبطت، ولم نجد عند سلمها سوى المحافظ وبعض موظفي مكتبه. ودخل النعش محملا على سيارة وفجأة ظهر (الحانوتي) حارس المقبرة يرفض دفن توفيق الحكيم، لأنه ليس له تصريح بالدفن. وحاولنا أن نقنع الرجل بأنه الكاتب العظيم توفيق الحكيم وكان يقول: هنا مفيش لا عظيم ولا صغير.. هنا موت وبس. وإذا لم يكن هناك تصريح بالدفن فلا دفن. وكان المحافظ ورجاله قد عادوا إلى مكاتبهم. واتصلت بهم وجاء من يستطيع التفاهم مع الحانوتي باليد والقدم، والتهديد بالطرد..

ولما خرجنا لم نجد أحدا، لا المحافظ ولا الموظفين، ولا أي أحد له علاقة بالقراءة والكتابة وبتوفيق الحكيم!