السياسة الخارجية الأميركية (بدون وكيل إقليمي)

TT

لا عودة إلى (سياسة الانكفاء على الذات) في الولايات المتحدة الأميركية، فتلك سياسة دحرها ـ إلى غير رجعة ـ: التقدم العلمي والتكنولوجي في المواصلات والاتصالات.. والتداخل الاقتصادي والتجاري والمالي والعسكري بين أميركا ودول العالم.. وظهور ما يمكن تسميته بـ(الأمن العالمي الجماعي) تجاه قضايا عديدة تمس أمن الكوكب وسلامته ومسيره ومصيره.

نعم.. في الولايات المتحدة مشكلات مركبة وقاصمة تبدو وكأنها تستنفد طاقة الرئيس الجديد (أوباما) وفريق حكمه وإدارته استنفادا لا يبقي شيئا للشؤون الخارجية!

بيد أن ذلك لا يعني: أن الولايات المتحدة ستنسحب ـ بموجب تداعيات ظروفها الوطنية ـ من العالم. فهذا (وهم) لا ينبغي أن يطرأ على ذهن عاقل، ذلك أن الحقيقة الموضوعية تقول: إن الولايات المتحدة (واقع دولي) أو عالمي ضخم متداخل في شؤون العالم: اقتصاديا وسياسيا وعلميا وثقافيا وأمنيا.. إلى آخر خيوط التداخل وجسوره ودواعيه.

والدليل على ذلك: أن الرئيس الأميركي أوباما وهو يواجه مشكلات وطنية تدع الحليم حيران، لم يغرق ـ بالكلية ـ في هذه المشكلات، بل تعمد أن يمد بصره واهتمامه إلى الشؤون الخارجية منذ أول يوم تولى فيه مقاليد الجمهورية الأميركية.

والسؤال المركزي هو: كيف ستكون السياسة الخارجية الأميركية في العهد الجديد؟.. إن هذا السؤال مبني على تصور: أن السياسة الخارجية الأميركية: لم تكن واضحة، ولا متوازنة، ولا جيدة في السنوات الماضية، وهو تصور يستند إلى منظومة من الأدلة والوقائع والشواهد التي جهر بها عدد موفور من (النخبة الأميركية).. ومن هذه الأصوات الوطنية الأميركية ذات الوزن الاستراتيجي، والاعتبار السياسي.

1 - البروفيسور (كارل براون): الخبير الأميركي في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد صاغ هذا الخبير وجهة نظر سياسية واستراتيجية محترمة ومتوازنة يمكن تلخيصها في قوله: «إن مآل النظام الدولي إلى (التعددية)، وليس للقطب الواحد، وإن أي دولة أجنبية لا يمكنها الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وإذا نظر إليها بأنها تحاول الهيمنة فستقاوَم (كُتب هذا الكلام قبل احتلال العراق).. إن وضع الولايات المتحدة كقوة دولية جديدة هو وضع مرحلي من المحتوم أن يتغير، ولذا، فإن وجود سياسات وأدوار للدول الكبرى في منطقة الشرق الأوسط لا يلغي الأدوار المحلية لدول المنطقة وقدرتها على تحريك وترشيد السياسة الأميركية».

2 - في إطار (مجلس العلاقات الخارجية) الأميركي: عقد فريق من خبراء السياسة الدولية والشرق الأوسط من بينهم وأبرزهم مستشاران سابقان للأمن القومي الأميركي هما: برنت سكوكروفت، وزبغنيو بريجنسكي، ومساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق ريتشارد ميرفي، عقد هذا الفريق سلسلة من اللقاءات والمناقشات حول سياسة أميركا في الشرق الأوسط ثم صدر تقرير يحمل خلاصة المداخلات والمداولات وهذه الخلاصة هي: «لابد أن يسبق أي تعديل في السياسة الأميركية ـ بالنسبة للخليج ـ مشاورات مع القادة الأصدقاء، وإلا فإن التحرك المنفرد يتسبب في إثارة البلبلة في المنطقة وإضعاف الثقة في ثبات الولايات المتحدة ونياتها. ولقد وصلت السياسة الأميركية في الخليج إلى طريق مسدود في فترات معينة.. إن غياب روح القيادة السياسية في واشنطن سيؤدي على الأرجح إلى اضطراب السياسة الخارجية الأميركية في هذه المنطقة».

3 - عُقد في معهد الخدمة الخارجية بجامعة جورج واشنطن مؤتمر فريد من نوعه انتظم 230 خبيرا أميركيا في الشؤون الخارجية. وكانت نتائج المؤتمر (تقريرا نوعيا مركزا) في مجال إصلاح السياسة الخارجية الأميركية.. وهذا هو موجز ذلك التقرير :«هناك عالم جديد يتشكل. والشيء الأهم أن تنظر الولايات المتحدة إلى نفسها وسياستها الخارجية نظرة نقد وتجديد. فمن شأن الدبلوماسية الضعيفة الحالية أو المضطربة في المستقبل وفي غياب أدوات المساعدات الخارجية التي تزيد من فرص النجاح: أن يتزايد ويتصاعد تهديد المصالح الأمنية للولايات المتحدة.. إن وزارة الخارجية مصابة بعطب شديد «!!»، بل إنها في الواقع في عداد الموتى، وإن الروح المعنوية داخل الخارجية الأميركية في الحضيض إلى حد الكارثة».

هذه منظومة مفاهيم ورؤى أميركية تتفق على أن السياسة الخارجية لأميركا تتطلب إنقاذا ورؤية جديدة، وتوازنا دقيقا ليس من أجل مصلحتنا نحن (شعوب هذه المنطقة وحكوماتها)، وليس من أجل مصلحة العالم فحسب، بل من مصلحة أميركا نفسها قبل أي شيء آخر. فالمعيار الذي اعتمدت عليه تلك النخبة الأميركية ـ وهي تنتقد سياسة بلادها الخارجية ـ هو معيار (مصلحة الولايات المتحدة في المقام الأول).

ما هي هذه المصلحة الأميركية ـ بالتحديد ـ هي: النفط.. والمبادلات التجارية.. والأمن القومي الأميركي.. وتحسين صورة أميركا التي شوهتها أفعال وأيد أميركية بغباوة واستهتار فادحين، وهي أفعال ومواقف (متصهينة) في أغلب الأحوال.

وقد تفكر إدارة أوباما في ألف صيغة، وألف وسيلة وتدبير وأسلوب لإصلاح وترشيد السياسة الخارجية الأميركية في منطقتنا هذه.. ونحن نرى أنه مهما تعددت وتنوعت صيغ التغيير والتجديد، فإن الأولويات التي نقترحها والتي لا يمكن تجاهلها، ولا القفز فوقها هي:

أ - الفصل التام والواضح والشجاع بين ما هو أميركي وما هو صهيوني.

ولسنا نحلم أو نتوهم فنطالب الإدارة الأميركية الجديدة بأن تستدير 180 درجة ضد المؤسسة الصهيونية في إسرائيل، وفي داخل الولايات المتحدة نفسها. فالوضع أثقل وأعقد من أن يبسط على هذا النحو الساذج أو الحالم. إنما المطلوب هو: ألا يبلغ التأثير الصهيوني في القرار أو الموقف الأميركي درجة يُضحى فيها بالمصالح الأميركية الحيوية في سبيل أهواء الصهيونية.

من أولويات إدارة أوباما الخارجية (تحسين) صورة الولايات المتحدة في عين الرأي العام العربي.. والوصول إلى هذا الهدف يقتضي طرح سؤال جوهري عن (سبب) تشوّه صورة أميركا لدى الرأي العام العربي، ولو كُلف فريق أميركي مقتدر وأمين بالبحث عن هذه الأسباب لما تردد في القول بأن أهم سبب هو: (الخلط الشديد) بين ما هو أميركي وما هو صهيوني، ولما كانت الصهيونية غير ذات صورة حسنة لدى العرب ـ بطبيعة الحال ـ فإن هذه الصورة القبيحة انعكست - بقوة وبعمق - على صورة الولايات المتحدة. من هنا قلنا: إن المهمة الأولى في جهود عودة الثقة والمصداقية إلى السياسة الأميركية في المنطقة هي: الفصل الواضح والذكي بين ما هو أميركي وما هو صهيوني.. وفي السياق نفسه نسأل: كيف يتقبل الرأي العام الإسلامي ما تردد عن رغبة الإدارة الأميركية في مطالبة العالم الإسلامي بالتطبيع مع إسرائيل، على حين أن إسرائيل مندفعة بفجور واستهتار في (تهويد) القدس: أرضا وسكانا؟!!.. وهل هذا الخلط المعيب والمؤذي من مقومات تجميل صورة الولايات المتحدة لدى الرأي العام الإسلامي؟!

ب - الأولوية الثانية التي تُعد (شرطا أساسيا) في سياسة أميركية ناجحة في منطقتنا هي تخلي الولايات المتحدة وتحررها من (أسطورة الوكلاء الإقليميين).. وعلى افتراض صحة نظرية (الوكيل الإقليمي)، فإن إسرائيل لا تصلح ـ قط ـ لهذه المهمة أولا: لأنها كيان احتلالي استعلائي استفزازي عدواني.. ثانيا: لأنها كيان له أجندة خاصة محشوة بالأساطير التي تصطدم بالمصالح القومية الأميركية الحقيقية ـ كدولة علمانية ـ، ثالثا: لأنها كيان (مكروه) جدا جدا جدا في المنطقة بسبب سلوكه العدواني الماضي والمتجدد.. وهذه الكراهية مُسقَطة ـ لا محالة ـ على الموكل الذي هو أميركا.

وفي هذا الملف تجربتان أميركيتان خائبتان: تجربة شاه إيران الذي كان (وكيلا إقليميا) ـ بطموحه الذي وافق هوى أميركيا ـ ففشل وفشلت التجربة ـ من ثم ـ فكان ما كان!! وتجربة إسرائيل التي تسببت للموكّل ـ وهو أميركا ـ في آلام موجعة وخسائر لا تحصى من كل نوع.

من هنا فإن البديل الطبيعي والمجدي لأسطورة الوكيل الإقليمي لمصالح أميركا هو أولا: إقامة علاقة ثنائية نشطة ووثقى ومحترمة في كل ما يتعلق بالمصالح الثنائية بين أميركا وكل دولة في الإقليم.. ثانيا: في الشأن العام ينبغي تكوين رؤى مشتركة ـ بالتشاور الجدي ـ بين الولايات المتحدة وبين المؤسسات الإقليمية في المنطقة مثل: مجلس التعاون الخليجي.. وجامعة الدول العربية.. ومنظمة المؤتمر الإسلامي.

ليعلم الأميركيون علم اليقين: إن المنطقة لا تريد (وكيلا إقليميا) لأميركا: لا وكيلا إيرانيا، ولا وكيلا إسرائيليا، لا تريد وكيلا من أي جنس. ودون الأميركان الميدان لبناء علاقات مباشرة محترمة مع كل طرف دون الإضرار بالأطراف الأخرى، فليس من ضرورات العمل السياسي والدبلوماسي: أنه عندما تصافح طرفا بيمناك أن تفقأ عين طرف آخر بيسراك!!